بعد أسبوع أو أسبوعين أو ثلاثة… لنقل بعد شهر أو شهرين أو ثلاثة، ستباشر إسرائيل استخراج الغاز من حقل كاريش لنقله إلى أوروبا. يحصل ذلك في سياق تفاهمات مع غير دولة من دول المنطقة، بينها مصر، وبوجود غطاء أوروبي وآخر أميركي يعبّران بوضوح، ليس بعده وضوح، عن التغييرات التي شهدها العالم في ضوء الغزو الروسي لبلد أوروبي اسمه أوكرانيا.
تستخرج إسرائيل الغاز منذ فترة من حقول أخرى بعيدة عن المياه اللبنانيّة في ظلّ زيادة الحاجة العالميّة إلى الطاقة وإصرار أوروبي على التخلّص تدريجاً من الاعتماد على الغاز الروسي.
صار الغاز الإسرائيلي جزءاً من الأمن الأوروبي في وقت لم يعد في أوروبا مَن يريد السماع بروسيا وغازها ما دام على رأسها فلاديمير بوتين. لم تعد من ثقة بالرئيس الروسي الغارق في الوحول الأوكرانيّة، والذي لم يترك أمامه سوى باب التصعيد العسكري والسياسي.
نحن أمام مشهد لبلد بائس يدمّر نفسه بنفسه في غياب من يستطيع منعه من ذلك. حاول العالم مساعدة لبنان، لكن من دون نتيجة
ستصدِّر إسرائيل مزيداً من الغاز إلى أوروبا بعد أن يصبح حقل كاريش جاهزاً. في المقابل، سيبقى لبنان يتفرّج على ما يدور في مكان قريب منه وفي المنطقة والعالم. سيلهي لبنان نفسه بالقشور والكلام عن العزّة والكرامة وأهمّية “المقاومة” ومسيَّراتها في سياق تهجير ممنهج للمواطن اللبناني، خصوصاً المسيحي. سيظلّ في لبنان مَن يردّد شعارات تُغني عن مواجهة الواقع والحقيقة المؤلمة المتمثّلة في سقوط بلد عن بكرة أبيه وإفقار شعبه في كلّ مجال من المجالات بدءاً بسرقة ودائع المواطنين في المصارف، وصولاً إلى البحث عن رغيف الخبز والكهرباء، مروراً بالقضاء على بيروت ودورها وتدمير النظام التعليمي والاستشفائي.
سيبقى حسن نصرالله الأمين العام لـ”حزب الله” يُطلق التهديدات التي تشمل منع إسرائيل من استخراج الغاز الذي في حقولها. كلّ ما فعله، أو سيفعله، يتمثّل في تحقيق مزيد من الانتصارات على لبنان واللبنانيين. سيبقى لبنان عاجزاً عن القيام بأيّ خطوة تستهدف الاستفادة من ثرواته في البحر. سيتكرّس في كلّ يوم واقع أليم تختزله رغبة إيران في فرض هيمنتها على البلد وتحويله إلى ورقة من أوراقها في التفاوض غير المجدي مع أميركا.
العزلة اللبنانية
ينهار لبنان يوميّاً أكثر. نحن أمام مشهد لبلد بائس يدمّر نفسه بنفسه في غياب من يستطيع منعه من ذلك. حاول العالم مساعدة لبنان، لكن من دون نتيجة. ليس ما يدلّ على العزلة اللبنانيّة أكثر من حدثين اثنين. الأوّل القمم التي انعقدت في جدّة في أثناء الزيارة التي قام بها الرئيس الأميركي جو بايدن للمملكة العربيّة السعوديّة. جاء ذكر لبنان، الذي عزل نفسه عمّا يدور في المنطقة وعن أهل الخليج العربي، بشكل عارض في البيان الصادر عن القمّة الأميركية – الخليجية التي ضمّت أيضاً مصر والأردن والعراق. اكتفى بيان القمّة بالإشارة إلى ضرورة احترام موعد انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة خلفاً للكارثة التي اسمها الثنائي ميشال عون – جبران باسيل، ودعا إلى دعم الجيش وقوى الأمن الداخلي.
أمّا الحدث الثاني الذي يؤكّد العزلة اللبنانية فهو يتمثّل في انكفاء الدولة على ذاتها. ليست لدى الثنائي الرئاسي أيّ رغبة في تشكيل حكومة جديدة. يريد الثنائي فرض شروطه على رئيس الوزراء المكلّف نجيب ميقاتي الذي لديه حسابات أخرى تختلف كلّياً عن حسابات ميشال عون وجبران باسيل اللذين لا يستطيعان تصوّر أنّهما جزء من الماضي، وأنّ عليهما مغادرة قصر بعبدا في غضون ثلاثة أشهر وأسبوع من الآن…
في وقت تبدو إسرائيل، مدعومة من المجتمع الدولي، مصرّة على استغلال الغاز في كاريش وغير كاريش، يبدو لبنان مصرّاً على الاستمرار في اتّباع سياسة منطق اللامنطق التي تعني البقاء في الحضن الإيراني. ليس من قوّة، أقلّه في المدى المنظور، تستطيع إخراجه من هذا الوضع الذي يعني إصراراً على الانتحار.
نفق حزب الله الجديد
في غياب مرجعيّة سياسيّة للبلد، باستثناء مرجعيّة “حزب الله” وأجندته الإيرانيّة، يبدو طبيعياً ذهاب وزير ينتمي إلى الحزب إلى الناقورة لإثارة موضوع النفق الذي كان يمرّ فيه القطار قبل قيام دولة إسرائيل في عام 1948 وإغلاق الحدود اللبنانيّة مع فلسطين. حسناً، الأرض التي عليها النفق ومساحتها 1800 متر مربّع لبنانيّة. ثمّ ماذا؟ ما الفائدة من إثارة مثل هذا النوع من المسائل في هذا التوقيت بالذات بدل الذهاب إلى الاعتراف بالحاجة إلى ترسيم الحدود البحريّة والبرّية للبنان مع إسرائيل اليوم قبل غد؟
واضح أنّه ليس مطلوباً سوى تحقيق مزيد من الانتصارات الإيرانيّة على لبنان وإبقاء موضوع الترسيم معلّقاً. ليس مطلوباً من لبنان أكثر من أن يكون متفرّجاً على استخراج الغاز من كاريش، فيما هو غارق في أزمات لا تنتهي. تجعل هذه الأزمات العبثية المتلاحقة أقصى طموح للمواطن اللبناني العيش في ما يشبه نظام “الإمارة الإسلاميّة” على طريقة “طالبان” الذي فرضته “حماس” في قطاع غزّة منذ منتصف عام 2007، أو دويلة الحوثيين في اليمن الشمالي التي عاصمتها مدينة عريقة مثل صنعاء منذ أيلول 2014، أو المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق منذ ما يزيد على عشر سنوات.
إقرأ أيضاً: “إنّه النفط يا غبيّ”!
يموت لبنان، علماً أنّ لديه خيارات أخرى غير الموت. يموت وهو شاهد على إسرائيل تستخرج غازها بينما محظور عليه اتّخاذ أيّ مبادرة من أيّ نوع من أجل الاستفادة يوماً من ثرواته باستثناء إطلاق الشعارات والتهديدات الجوفاء. يموت لبنان موت رهينة لدى إيران من أجل أن تحيا “الجمهوريّة الإسلاميّة” والميليشيا المذهبيّة التابعة لها في لبنان لا أكثر…