أضاحي الشعوب اللبنانية.. على مذابح السلطة

مدة القراءة 5 د

لم يسبق لشعب أن عاش ما يعيشه الشعب اللبناني، أو لنقل، قلّة هي الشعوب التي عاشت ما يعيشه الشعب اللبناني، تحاشياً لانتقاد رجال العلم الذين لا يحبّون التعميم. لا نقصد هنا الفقر. فهناك شعوب أكثر فقراً من الشعب اللبناني. ولا نقصد تدهور الأوضاع الاجتماعيّة، فشعوب أخرى في دول العالم الثالث تعاني ظروفاً اجتماعيّة أسوأ من التي يعيشها اللبنانيون. منها بلاد لم تصل الكهرباء إلى منازل مواطنيها حتّى تنقطع عنها، ولم تُعبَّد طرقات مدنها وقراها حتى تظهر فيها الحُفر، ولم يقدر أبناؤها على شراء سيارة لكي يقفوا في الطابور للحصول على الوقود. إنّهم يستعملون الدرّاجة الهوائية في تنقّلاتهم، وطبعاً ليس للحفاظ على البيئة كما يفعل مواطنو أمستردام. وفي أحسن الأحوال يستعملون الدرّاجة الناريّة ليس لسهولة ركنها في المدينة، كما يفعل أبناء مدينة روما، وإنّما لأنّها تستهلك الوقود أقلّ من السيارة. ولا نقصد بما يعيشه اللبنانيون وقوفهم المستجدّ في الطابور للحصول على ربطة خبز. فالوقوف في الطابور ثقافة لدى الشعوب المتطوّرة (وبطبيعة الحال ليس هناك خط عسكريّ ولا خط دينيّ).

لا نقصد أيضاً تدهور الوضع التربوي. ففي العالم شعوب مدارسها تفتقر إلى أدنى مقوّمات التعليم. تفتقر إداراتها إلى وسائل الإدارة. ليس أساتذتها من حَمَلة الشهادات العليا، ولا يتقنون اللغات. يأتونها تلامذتها وبحوزتهم دفتر وقلم وحسب. ولا نقصد انهيار القطاع الاستشفائي، ففي إفريقيا شعوب تفتقر إلى أدنى الخدمات الطبيّة، ولذلك نسبة وفيات الأطفال والمسنّين فيها مرتفعة. ولا نقصد تدهور قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار الأميركي. فهناك عملات وضعها أسوأ مثل الريال الإيرانيّ…

إذا كنّا لا نقصد كلّ هذه وغيرها من ظواهر الانهيار، فماذا نقصد بأن لا شعب عاش ما يعيشه الشعب اللبنانيّ؟

الشعوب اللبنانيّة بغالبيّتها، أيضاً تحاشياً للتعميم، جعلت من نفسها أضاحي لـ”آلهة” الأرض وسلطتها. وهي تُعدُّ أبناءها ليكونوا أضاحي لورثَتهم

في الواقع نقصد أنّ الشعب اللبنانيّ ربّما (ونقول ربّما تحاشياً للتعميم الذي يُزعج أهل العلم) هو الوحيد الذي شهد هذا الانهيار السريع لكلّ حياته بكل مرافقها وقطاعاتها السياسيّة والاقتصاديّة والماليّة والاجتماعيّة… وبكلّ مراحلها الماضية والحاضرة والمقبلة. لم يكن هذا الانهيار نتيجة حرب كونيّة، أو أزمة اقتصاديّة، أو أزمة ماليّة، أو كارثة طبيعيّة… إنّما بسبب وجود طبقة سياسيّة أساءت إدارة البلاد منذ ما يزيد على ثلاثة عقود. بدل أن تضع حكوماتها خططاً اقتصاديّة وإنمائيّة، انهمكت بسرقة البلاد. وبدل أن تشرّع مجالسها النيابيّة القوانين لتطوير البلاد وحياة العباد، سنّت القوانين ليتحكّم الفاسدون بالبلاد وليفسدوا العباد بالرشى والمحسوبيّة والزبائنية السياسيّة. والأسوأ من كلّ ذلك أنّ الشعب اللبنانيّ ربّما هو الوحيد، نقول ربّما، المتمسّك بطبقة سياسيّة أوصلته إلى “جهنّم”. وهنا تكمن فرادته. حاول الانتفاض ضدّها. ولكنّ انتفاضته تحوّلت انتفاضات. لم تنجح في قلب الطاولة. وها هو قد أعاد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها في الانتخابات النيابيّة الأخيرة. والسبب أنّ الشعب اللبناني هو مجموعة شعوب.

 

شعوب لبنانية

خلال الحرب أطلق غسان تويني صرخته في الأمم المتحدة، وكان مندوب لبنان لديها: “اتركوا شعبي يعيش”. ولكن عن أيّ شعب تكلّم تويني؟ وهل الشعب اللبناني شعب؟

كلّ الذي حدث منذ الحرب، وما قبلها، وما بعدها، وما يحدث قبل الانهيار وما بعده، يؤكّد أنّ الشعب اللبناني ليس شعباً واحداً إنّما مجموعة شعوب.

شعوب دينيّة: مسيحيّة وإسلاميّة ودرزيّة.

شعوب طائفيّة: مارونيّة، وأرثوذكسيّة، وكاثوليكيّة، وسريانيّة،…

شعوب مذهبيّة: سنّيّة وشيعيّة وعلويّة…

إذا كانت “آلهة السماء” هي من صنعت من الشعب اللبناني مجموعة شعوب دينيّة وطائفيّة ومذهبيّة، فإنّ “آلهة الأرض” (الزعماء) في لبنان هم من صنعوا منه مجموعة قبائل حزبيّة.

ربّما سيكفّرنا البعض لأنّنا استعملنا تسمية “آلهة” لزعماء السياسة في لبنان. ولكن أليست الشعوب اللبنانيّة هي من جعلتهم “آلهة”؟ لا تحاسبهم على خطأ، وكأنّهم معصومون من الخطأ. ولا تناقشهم في كلام، وكأنّ كلامهم “مُنزَل”. ولا تطلب منهم تطبيق الشريعة (القانون) الحزبيّة لأنّ سُلطة الزعيم هي “الشريعة”. وبطبيعة الحال لا تطالب بانتخابات وتداول سلطة داخل الحزب.

وهل يجوز استبدال الزعيم – الإله؟ فهو الحاكم القدير. يُعيّن من يشاء ويعزل من يشاء. يقرِّب من يشاء ويُبعد من يشاء. يأتي بـ”المرتزقة” السياسيين والماليين. يجعل منهم حزبيّين. ويقدّمهم على المناضلين في الحزب.

 

أضاحي على “مذابح” السلطة

أتى في سِفر التكوين أنّ الله أراد اختبار إيمان إبراهيم. فطلب منه اصطحاب ابنه إسحاق لتقديمه ذبيحة. وعندما “أخذ السكّين ليذبح ابنه” ناداه “ملاك الربّ” وقال له: “لا تمدّ يدك إلى الغلام”. وأشار له إلى الكبش ليقدّمه ذبيحة للربّ. وسُمّي إبراهيم “أبا المؤمنين”.

إقرأ أيضاً: انهيار لبنان الكارثيّ.. بالأرقام

الشعوب اللبنانيّة بغالبيّتها، أيضاً تحاشياً للتعميم، جعلت من نفسها أضاحي لـ”آلهة” الأرض وسلطتها. وهي تُعدُّ أبناءها ليكونوا أضاحي لورثَتهم. هذا أحد أسباب الانهيار. لذلك لبنان ليس بخير. ولن يكون بخير ما دام الشعب اللبناني شعوباً تقبل أن تكون أضاحي على “مذابح” سلطة الزعماء “الآلهة”.

كلّ عيد أضحى وأنتم بخير.

مواضيع ذات صلة

تشدّد الرّياض: عودة عربيّة إلى نظام إقليميّ جديد؟

توحي نتائج القمّة العربية – الإسلامية بأوجه متعدّدة لوظيفة قراراتها، ولا تقتصر على محاولة فرملة اندفاعة إسرائيل العسكرية في المنطقة. صحيح أنّ القمّة شكّلت حاضنة…

الحرب الأهلية: هواجس إيقاظها بصورٍ كريهة

 اللغو اللبناني حول حظوظ البلد بارتياد آفاق حرب أهلية جديدة، ارتفع. قد يكون هذا الارتفاع على وسائل التواصل الاجتماعي سببه “شامت” بالوضع أو رافض لـ”الرفق”….

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…