توماس فريدمان Thomas Freidman– The New York Times
إليكم حقيقة مفاجِئة: فيما لا يستطيع الأميركيون الاتفاق على أيّ شيء تقريباً، هناك أغلبية ثابتة تؤيّد تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية سخيّة لأوكرانيا في حربها ضدّ جهود فلاديمير بوتين لمحوها من الخريطة. إنّه لأمر مفاجئ بشكل مضاعف عندما تأخذ في اعتبارك أنّ معظم الأميركيين قبل بضعة أشهر فقط لم يتمكّنوا من العثور على أوكرانيا على الخارطة، لأنّها بلد لم تكن لنا معه أبداً علاقة خاصّة من قبل.
على الرغم من ذلك، فإنّ الحفاظ على هذا الدعم لأوكرانيا خلال هذا الصيف سيكون ذا أهميّة مضاعفة حين تستقرّ حرب أوكرانيا في مرحلة ما من صراع “السومو”، حيث مصارعان عملاقان يحاول كلٌّ منهما طرد الآخر من الحلبة، لكنّهما لا يرغبان في الانسحاب أو لا قدرة لأحدهما على الفوز.
فيما لا يستطيع الأميركيون الاتفاق على أيّ شيء تقريباً، هناك أغلبية ثابتة تؤيّد تقديم مساعدات اقتصادية وعسكرية سخيّة لأوكرانيا في حربها ضدّ جهود فلاديمير بوتين لمحوها من الخريطة
بينما أتوقّع بعض التآكل في هذا الدعم حين يدرك الناس مدى دفع هذه الحرب إلى ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء في العالم، ما زلت آمل أن تبقى غالبية الأميركيين هناك إلى أن تتمكّن أوكرانيا من استعادة سيادتها عسكرياً أو إبرام اتفاق سلام لائق مع بوتين. لا ينبع تفاؤلي على المدى القريب من قراءة استطلاعات الرأي، لكن من قراءة التاريخ، وعلى وجه الخصوص كتاب مايكل ماندلباوم Michael Mandelbaum الجديد، “العصور الأربعة للسياسة الخارجية الأميركية: القوة الضعيفة، القوة العظيمة، القوة العظمى، القوة المفرطة The Four Ages of American Foreign Policy: Weak Power, Great Power, Superpower, Hyperpower“.
ماندلباوم هو الأستاذ الفخري للسياسة الخارجية الأميركية في كلية جونز هوبكنز للدراسات الدولية المتقدّمة Johns Hopkins School of Advanced International Studies (تشاركنا في كتابة كتاب في عام 2011 هو “نحن كما اعتدنا أن نكون، كيف تراجعت أميركا خلف العالم الذي اخترعته وكيف يمكننا العودة That used to be us how America fell behind in the world it invented and how we can come back“).
نهجان للسياسة الخارجية
يجادل ماندلباوم في كتابه الجديد أنّه بينما تبدو مواقف الولايات المتحدة تجاه أوكرانيا غير متوقّعة تماماً وجديدة، إلا أنّها ليست كذلك. وبالنظر إلى امتداد نفوذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، فهي في الواقع مألوفة تماماً ويمكن توقّعها. السياسة التي يسرد كتابه تاريخها المقنع، من خلال عدسة علاقات القوة الأربع المختلفة التي أقامتها أميركا مع العالم،. وهي واقعية حقّاً لدرجة أنّ كلّاً من بوتين ورئيس الصين، شي جين بينغ، سيستفيدان من قراءة هذا الكتاب.
على مدار تاريخ الولايات المتحدة، تأرجحت أمّتنا بين نهجين عريضين للسياسة الخارجية، كما أوضح ماندلباوم في مقابلة له، مردّداً طرحاً رئيسياً في كتابه: “النهج الأول يركّز على القوة والمصلحة الوطنية والأمن، ويرتبط بالرئيس الأميركي السابق ثيودور روزفلت Theodore Roosevelt (1901-1909). ويؤكّد النهج الآخر على تعزيز القيم الأميركية، ويتوافق مع الرئيس السابق وودرو ويلسون Woodrow Wilson (1913-1921)”.
بينما كانت هاتان النظرتان نحو العالم تتنافسان في كثير من الأحيان، لم يكن هذا هو الحال دائماً. فعندما يظهر تحدٍّ ما للسياسة الخارجية الأميركية يتناغم مع مصالحنا وقيمنا معاً، فعندها يصل إلى النقطة المثالية، ويمكن أن يحظى بدعم شعبي واسع وعميق ودائم.
وأشار ماندلباوم إلى أنّ “هذا حدث في الحرب العالمية الثانية، وفي الحرب الباردة، ويبدو أنّه يحدث مرّة أخرى مع أوكرانيا”.
لكنّ السؤال الكبير هو: إلى متى؟
لا أحد يعلم، لأنّ الحروب تتبع مسارات متوقّعة وغير متوقّعة.
الأمر المتوقّع في ما يتعلّق بأوكرانيا هو أنّه مع ارتفاع التكاليف، ستزداد المعارضة، إمّا في أميركا أو بين حلفائنا الأوروبيين، بحجّة أنّ مصالحنا وقيمنا اختلّ توازنها في أوكرانيا. سوف يجادلون بأنّنا لا نستطيع اقتصادياً دعم أوكرانيا إلى حدّ تحقيق النصر الكامل، أي طرد جيش بوتين من كلّ شبر من أوكرانيا، ولا السعي استراتيجياً إلى تحقيق النصر الكامل، لأنّ بوتين في مواجهة الهزيمة الكاملة يمكن أن يطلق العنان لسلاح نووي.
يمكن للمرء أن يرى بالفعل دلائل على ذلك في البيان الذي أدلى به الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم السبت الماضي وقال فيه إنّ على التحالف الغربي “عدم إذلال روسيا”، وهو بيان أثار صيحات الاحتجاج من أوكرانيا.
وأوضح ماندلباوم أنّ “كلّ حرب في التاريخ الأميركي أثارت المعارضة ضدّها، بما في ذلك الحرب الثورية (للتحرّر من بريطانيا)، عندما انتقل المعارضون لها إلى كندا. ما هو مشترك بين أعظم ثلاثة من قادتنا العسكريين واشنطن ولينكولن وروزفلت، وكلّهم كانوا رؤساء في حالة الحرب، هو قدرتهم على إبقاء البلاد ملتزمة بكسب الحرب، على الرغم من المعارضة”.
لا إجماع على شكل “الفوز”
سيكون هذا تحدّياً للرئيس بايدن أيضاً، خاصةً عندما لا يوجد إجماع بين الحلفاء أو مع أوكرانيا حول شكل “الفوز” هناك: هل هو تحقيق هدف كييف المعلن حالياً لاستعادة كلّ شبر من أراضيها التي تحتلّها روسيا؟ هل تتمكّن أوكرانيا، بمساعدة حلف شمال الأطلسي، من توجيه ضربة للجيش الروسي لدرجة إجبار بوتين على الدخول في صفقة تسوية تترك له السيطرة على بعض الأراضي؟ وماذا لو قرّر بوتين أنّه لا يريد أبداً أيّ حل وسط، وبدلاً من ذلك يريد لأوكرانيا أن تتحمّل موتاً بطيئاً ومؤلماً؟
قال ماندلباوم في اثنتين من أهمّ الحروب في تاريخنا: الحرب الأهليّة، والحرب العالمية الثانية، “كان هدفنا الانتصار التامّ على العدو. مشكلة بايدن وحلفائنا هي أنّنا لا نستطيع أن نضع هدفاً لنا يكون تحقيق نصر كامل على روسيا بوتين، لأنّ ذلك قد يؤدّي إلى حرب نووية. ومع ذلك، فإنّ أمراً شبيهاً بالنصر التامّ قد يكون الطريقة الوحيدة لمنع بوتين من استنزاف أوكرانيا إلى الأبد”.
وهو ما يقودنا إلى ما لا يمكن التنبّؤ به: بعد أكثر من 100 يوم من القتال، لا أحد يستطيع أن يخبرك كيف تنتهي هذه الحرب. لقد بدأت في رأس بوتين، ومن المرجّح أن تنتهي فقط عندما يقول بوتين إنّه يريد أن يُنهي هذه الحرب. ربّما يشعر بوتين بأنّه صاحب القرار، وأنّ الوقت إلى جانبه، لأنّه يستطيع تحمّل الألم أكثر من الديمقراطيّات الغربية. لكنّ الحروب الكبيرة أشياء غريبة. فكيفما بدأت، يمكن أن تنتهي بطرق غير متوقّعة على الإطلاق.
الحرب تغيّر معايير القيم
اسمحوا لي أن أقدّم مثالاً عبر أحد الاقتباسات المفضّلة لماندلباوم. إنّه مأخوذ من السيرة الذاتية التي كتبها ونستون تشرشل Winston Churchill عن سلفه العظيم دوق مارلبورو Duke of Marlborough، والتي نُشرت في ثلاثينيّات القرن الماضي: “الفوز أو الخسارة في المعارك العظيمة هو ما يغيّر مجرى الأحداث بكاملها، إذ يخلق معايير جديدة للقيم، ومزاجاً جديداً، وأجواء جديدة، في الجيوش وفي الدول، وعلى الجميع الامتثال لها”.
وجادل ماندلباوم بأنّ عبارة تشرشل تعني أنّ “الحروب يمكن أن تغيّر مجرى التاريخ. والمعارك الكبرى غالباً ما تقرّر مآل الحروب. وبالمثل، فإنّ المعركة الدائرة الآن بين روسيا وأوكرانيا للسيطرة على المنطقة في شرق أوكرانيا المعروفة باسم دونباس، من المحتمل أن تكون هذه المعركة الحاسمة للحرب”.
وفي مجالات أخرى، فإنّ الدول الـ 27 في الاتحاد الأوروبي، هي حليفنا الرئيسي، وهي في الواقع أكبر كتلة تجارية في العالم. لقد تحرّكت بالفعل بشكل حاسم لخفض التجارة مع روسيا والاستثمارات فيها. وفي 31 أيار الماضي، وافق الاتحاد الأوروبي على خفض 90% من واردات روسيا من الخام بحلول نهاية عام 2022. لن يضرّ ذلك روسيا فحسب، بل سيسبّب أيضاً ألماً حقيقياً للاتحاد الأوروبي. المستهلكون والمصنّعون يدفعون بالفعل أسعاراً خيالية للبنزين والغاز الطبيعي.
كلّ هذا يحدث فيما أصبحت الطاقة المتجدّدة، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، منافسة للوقود الأحفوري من حيث الأسعار. تعمل صناعة السيارات في جميع أنحاء العالم على زيادة إنتاج السيارات الكهربائية بشكل كبير، وكذلك البطّاريات.
على المدى القصير، لا يمكن لأيٍّ من تلك الدول تعويض الانخفاض في الإمدادات الروسية. لكن إذا كان لدينا عام أو عامان من الأسعار الفلكية للبنزين والغازولين بسبب حرب أوكرانيا، “فسنشهد تحوّلاً هائلاً في استثمارات الصناديق المشتركة، والصناعة، وفي السيارات الكهربائية، وتحسينات الشبكة الكهربائية، وخطوط النقل، والتخزين الطويل المدى، وهو ما يمكن أن يدفع السوق بكاملها بعيداً عن الاعتماد على الوقود الأحفوري نحو مصادر الطاقة المتجدّدة”، بحسب ما قال توم بورك Tom Burke، مدير مجموعة أبحاث المناخ من الجيل الثالث Third Generation Environmentalism/E3G. وأضاف: “حرب أوكرانيا تجبر بالفعل كلّ دولة وشركة على تطوير خططها لإزالة الكربون بشكل كبير”.
في الواقع، وجد تقرير نشره الأسبوع الماضي مركز أبحاث الطاقة والهواء النظيف Center for Research on Energy and Clean Air، وشركةEmber ، وهي مؤسسة بحثية عالمية في مجال الطاقة ومقرّها بريطانيا، أنّ 19 من أصل 27 دولة في الاتحاد الأوروبي “عزّزت طموحها بشكل كبير في ما يتعلّق بنشر الطاقة المتجدّدة منذ عام 2019، مع التقليل من توليد الطاقة من الوقود الأحفوري المخطّط له لعام 2030 لحماية نفسها من التهديدات الجيوسياسية.”
إقرأ أيضاً: كيف تنتهي الحرب في أوكرانيا؟
وأشار مقال نُشر أخيراً في فصليّة ماكينزي McKinsey Quarterly إلى أنّ “الحروب البحرية في القرن التاسع عشر سرّعت التحوّل من السفن التي تعمل بالرياح، إلى السفن التي تعمل بالفحم. أحدثت الحرب العالمية الأولى تحوّلاً من الفحم إلى النفط. وأدخلت الحرب العالمية الثانية الطاقة النووية كمصدر رئيسي للطاقة. في كلّ حالة من هذه الحالات، تدفّقت الابتكارات في زمن الحرب مباشرة إلى الاقتصاد المدني وبشّرت بعصر جديد. تختلف الحرب في أوكرانيا من حيث أنّها لا تحفّز الابتكار في مجال الطاقة بحدّ ذاتها، لكنّها تجعل الحاجة إليها أكثر وضوحاً. ومع ذلك، يمكن أن يكون تأثيرها المحتمل تحويليّاً بالقدر نفسه”.
لنذهب إلى الاستنتاج التالي: إذا لم تفجّر هذه الحرب الكوكب عن غير قصد، فقد تساعد عن غير قصد في الحفاظ عليه. وبمرور الوقت، تقلّص المصدر الأساسي للمال والسلطة لبوتين.
الآن لن يكون ذلك مثيراً للسخرية.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا