منذ أيام تنتظر مريم (32 عاماً) مع مئات من العائلات السورية في منطقة جسر الرئيس وسط العاصمة دمشق وصول الشاحنات العسكرية التي تقلّ المعتقلين المفرَج عنهم.
حملت السيدة صورة صغيرة لزوجها محمد ياسين (39 عاماً). كانت تحتفظ بها منذ سنوات. فيما حمل الآلاف صوراً لأبنائهم المعتقلين أيضاً. جابت السيدة وغيرها شوارع المدينة لعلّ أحد المفرَج عنهم يكون التقاه في السجن أو ربّما يعرف أيّ خبر عنه في سجن ما من عشرات السجون السورية التي قُتل فيها الآلاف تحت التعذيب.
أُصيبت مريم بخيبة أمل كبيرة لأنّها لم تتمكّن من معرفة مصير زوجها المعتقَل منذ 9 سنوات، أو الحصول على أيّ معلومة من معظم المعتقلين المفرَج عنهم، الذين خرجوا من السجون فاقدي الذاكرة أو بوضع صحّي مريع. وهو ما يعكس مأساة المعتقلين والمغيّبين قسراً داخل أقبية وسجون النظام السوري التي توصف بـ”المسالخ البشرية”.
من دون إعلان مسبق، بدأ النظام السوري بالإفراج عن معتقلين على دفعات بعد صدور عفو عامّ عمّا وُصِف بـ”الجرائم الإرهابية” التي ارتكبها سوريون قبل نهاية شهر نيسان 2022
لكن لماذا الإفراج عن معتقلين في هذه اللحظة؟
من دون إعلان مسبق، بدأ النظام السوري بالإفراج عن معتقلين على دفعات بعد صدور عفو عامّ عمّا وُصِف بـ”الجرائم الإرهابية” التي ارتكبها سوريون قبل نهاية شهر نيسان 2022، باستثناء تلك التي أفضت إلى “موت إنسان”. وشمل العفو عدداً محدوداً من المعتقلين بلغ “200 معتقل” إلى الآن في ظلّ أنباء عن أنّ الأيام المقبلة ستشهد خروج دفعات أخرى.
على الرغم من أنّ وزارة العدل أكّدت أنّ جميع السجناء والموقوفين المشمولين بعفو عامّ عن الجرائم الإرهابية سيتمّ إطلاق سراحهم تباعاً خلال الأيام المقبلة، إلا أنّ قضية المعتقلين والمفقودين هي من أكثر ملفّات النزاع السوري تعقيداً. فقد وثّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان استمرار النظام السوري في توقيف مئات آلاف المعتقلين من دون مذكّرة اعتقال لسنوات طويلة، ومن دون توجيه تُهم، وحُظِر عليهم توكيل محامٍ والزيارات العائلية، وتحوّل قرابة 68% من إجمالي المعتقلين إلى “مخفيّين قسراً”.
بلغ عدد المعتقلين والمخفيّين قسراً على يد النظام السوري منذ 2011 حتى أواخر 2021، نحو 131 ألفاً و469 شخصاً من بينهم 3,621 طفلاً و8,037 امرأة.
حديث الصورة: أحد المفرَج عنهم من مسالخ الأسد وبعض أهالي المعتقلين يهرعون إليه ليعرضوا عليه صور أبنائهم لعلّه قد شاهدهم. وعلى وسائل التواصل مئات الآلاف غيرهم يبحث بين الصور عن بصيص أمل ولو ضعيفاً.
فوضى وسمسرة
تختصر الصور الآتية من العاصمة دمشق كلّ الحكاية. فللوهلة الأولى تحسب التجمّعات مهرجاناً للترفيه أو فعّالية لمناسبة العيد. لكنّها في الحقيقة انتظار لشهادة وفاة، أو لغائب لا يعود، أو لشباب قضوا أعمارهم في غياهب السجون.
ترفض مريم العودة إلى منزلها المدمّر في أقصى الشمال السوري، وتأمل رؤية زوجها مجدّداً أو سماع أيّ خبر عنه. تقول السيدة في اتصال مع “أساس”: “كل الناس هنا يتشاركون معي الشعور. جميعنا بانتظار خبر صغير، خبر واحد عمّن نحبّ. كلّ ما أتمنّاه أن نراهم يوماً ما”.
تسلّق شبّان الجسر وافترشت نساء الأرض في حديقة مجاورة في انتظار سماع خبر أو وصول سجناء، ومنهم من مضى على اعتقاله أكثر من 10 سنوات.
وفقاً لمصادر فقد تعمّد النظام السوري افتعال هذه الفوضى، ولم يُصدر قوائم بأسماء المعتقلين المفرَج عنهم من قبل “وزارة العدل”، لإتاحة المجال للسماسرة المقرّبين من الضبّاط والمتنفّذين لدى الفروع الأمنيّة، لاستغلال قلق الأهالي على أبنائهم المعتقلين، وطلب مبالغ ماليّة ضخمة لوضعهم ضمن قوائم المفرَج عنهم.
حديث الصورة: يُعتبر ملفّ المعتقلين والمخفيّين قسراً والمغيّبين الأكثر إيلاماً بين ملفّات القضية السورية المتعدّدة الجوانب، وقد رفض النظام مقاربة هذا الملف على طاولات التفاوض منذ عام 2014.
وقد عبّر معارضون، على مواقع التواصل الاجتماعي، عن اعتقادهم أنّ الإفراج جاء “لتهدئة الرأي العام بعد نشر صحيفة “غارديان” البريطانية ومعهد “نيولاينز” الأسبوع الماضي مقاطع فيديو مروّعة تعود إلى عام 2013 تُظهر تصفية عشرات الأشخاص على أيدي النظام السوري في حيّ التضامن في دمشق”.
رجال “الرئيس“
من جانبها، فإنّ “الحملة الدولية لإنقاذ المعتقلين السوريين”، حذّرت ذوي المعتقلين من التعرّض لابتزاز يقوم به “نصّابون” بحجّة أنّهم يساعدون في شمول اسم معتقل بالعفو مقابل مبلغ من المال، مؤكّدة في بيان لها أنّ “لوائح العفو واضحة، والأسماء قد حدّدها النظام من قبل”.
السبب هو أنّ الأهالي يتعرّضون للابتزاز الماليّ من قبل عصابات الاحتيال ورجال الأمن المقرّبين من رئيس النظام السوري، وبعض المحامين والوسطاء داخل سوريا، مقابل تقديم أو تزوير معلومات ووثائق عن أبنائهم وأحبّتهم المعتقلين أو المخفيّين قسراً.
من بين الذين تعرّضوا للاحتيال أمّ علاء، سيّدة سورية في عقدها الخامس باعت كلّ ما تملك كي تدفع لـ”سماسرة” أوهموها أنّهم قادرون على تحديد مكان ابنها الوحيد المفقود في سجون النظام في سوريا، لكن مرّت نحو عشر سنوات ولا تزال تجهل مصيره. وتطلب عدم نشر اسمها كاملاً خوفاً من عمليات انتقام منها.
تقول السيّدة في اتصال رقمي مع “أساس” من مكان إقامتها في شمال سوريا: “كذبوا عليّ، والغريق يتعلّق بقشّة.. لو طلبوا قلبي لأعطيتهم إيّاه”.
تعتقد الناشطة الحقوقية نور الخطيب المهتمّة بملفّ المعتقلين في السجون السورية أنّ غياب التنسيق المشترك للتعامل مع ملفّ المعتقلين خلال السنوات الأولى من الثورة السورية، أدّى إلى تعامل عائلات الضحايا وفق آليّات فردية لمعرفة مصير أبنائها داخل السجون، فانتشرت حالات إطلاق سراح المعتقلين عن طريق دفع فدية أو رشوة مقابل إدراج أسماء معيّنة في قوائم الإفراج، حتى صار لهذه الطرق سماسرة وقنوات منظّمة يستفيد منها النظام السوري.
يستغلّ كثيرون معاناة أهالي المعتقلين والمفقودين الذي يبحثون عن أمل بسيط يتعلّقون به لمعرفة هل أبناؤهم على قيد الحياة أو لمحاولة إنقاذهم من سجون ومراكز أمنيّة ذائعة الصيت بممارسات التعذيب التي تنتهجها.
تقول الباحثة في الشأن السوري في منظمة العفو الدولية ديانا سمعان إنّ الحكومة السورية جعلت الحصول على معلومات عن معتقلين أمراً “مستحيلاً”، الأمر الذي خلق “سوقاً سوداء”.
وتضيف: “ينتهي الأمر بالعائلات المستميتة للحصول على معلومة إلى دفع أموال طائلة، وأحياناً كامل مدّخراتها لوسطاء وسماسرة مقرّبين من النظام السوري”.
في تقرير صدر بداية العام الحالي، أوردت “رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا” أنّ النظام السوري استخدم المعتقلين والمخفيّين قسراً “وسيلة لجني ومراكمة الثروات وزيادة نفوذ الأجهزة الأمنية وقادتها والنافذين في حكومته وبعض القضاة والمحامين”.
وقدّرت الرابطة أن يكون الابتزاز المالي منذ العام 2011 أدخل للنظام أو مقرّبين منه ما يفوق مليونَيْن و700 ألف دولار للحصول على معلومات أو بناء على وعود بالزيارة أو إخلاء سبيل.
حديث الصورة: سيّدات سوريّات أمام مقرّ الأمم المتحدة في جنيف يحملن صور أقاربهنّ المعتقلين في سوريا (رابطة “عائلات من أجل الحريّة”).
تعذيب السوريّين داخل معتقلات الأسد وخارجها
كان النظام السوري قد أبلغ سابقاً الكثير من العائلات بوفاة أبنائها، إلا أنّ بعضهم ظهر على قيد الحياة بعد خروجه من المعتقل ضمن المفرَج عنهم إثر “العفو” الأخير الذي أصدره بشار الأسد.
على الرغم من عودة المعتقلين إلى الحياة إلا أنّ مأساتهم لم تنتهِ داخل السجون السورية أو خارجها، فعدد من المُعتقلين الذين خرجوا من المعتقلات السورية أخيراً وجدوا أنّ زوجاتهم قد تزوّجن غيرهم، وذلك بسبب إبلاغ النظام السوري في وقت سابق عائلة المُعتقل وزوجته بوفاته.
يقول عمر الحمصي، وهو شابّ في عقده الثالث يعمل على توثيق أسماء المفرَج عنهم، إنّ ابن خاله خرج منذ يومين من سجن صيدنايا بعدما اعتُقل منذ عام 2011. وبعد خروجه اكتشفت العائلة أنّه فَقَد ذاكرته، إذ لم يتذكّر أيّاً من أهله أو الذين يعرفونه، إلا أنّه لم ينسَ زوجته التي تُعتبر “حبّه الأوّل”. يضيف الحمصي: “تزوّجت بعدما قضى 8 سنوات في سجون نظام الأسد بسبب إبلاغها بأنّ زوجها قد تُوفّي في السجن”.
السوريّون ليسوا وحدهم
في خضمّ إطلاق سراح معتقلين من أقبية النظام السوري طالب أهالي معتقلين فلسطينيين في سجون الأسد بالكشف عن مصير أبنائهم، وتجدّدت مطالب العائلات والمنظّمات الحقوقية اللبنانية أيضاً بالتحرّك لحلّ ملفّ 628 مواطناً لبنانياً تمّ توثيق وجودهم في السجون السورية.
إلى اليوم لا يزال مصير هؤلاء مجهولاً، خاصة أنّها قضية لا تمسّ المعتقَل فقط، بل تمسّ عائلته أيضاً. فوراء كلّ معتقَل عائلة تعيش مثله، وتقاسي ألم الانتظار وألم عدم معرفة مكانه (الشعور بالمجهول).
إقرأ أيضاً: مجزرة حي التضامن: لماذا لم يتحرّك قضاء ألمانيا وفرنسا وهولندا؟
يستعيد اللبنانيون صور السجناء الذين قُتلوا تحت التعذيب في السجون السورية، وقضية المغيّبين في السجون. في الأثناء، ينكر النظام في سوريا وجود أيّ لبناني في سجونه بعد آذار 2008، إذ أطلق حينها 100 سجين لبناني من مراكز اعتقال موزّعة في أنحاء البلاد.
تشير المعلومات إلى قرائن عديدة عن وجود عدد من اللبنانيين في السجون، إذ يؤكّد شهود عيان سوريون فرّوا من السجون أنّ من بين المعتقلين في سجون فروع المخابرات السورية لبنانيين لا يزالون أحياء.