يشير العدد المرتفع للّوائح الانتخابية في دائرتَيْ بيروت الثانية (10 لوائح) وفي طرابلس (11 لائحة) إلى عمق الأزمة السياسية لدى السُنّة في لبنان. صحيح أنّ كثرة المرشّحين أو اللوائح تمثّل في مكان ما نوعاً من الحيويّة ودليلاً على التنوّع، لكنّ ذلك يدلّ أيضاً على وجود شوائب كثيرة، خصوصاً في مجتمع مليء بالانقسامات البينية، مثل المجتمع اللبناني.
معروفٌ أنّه خلال الانتخابات تذهب القوى الحزبية أو السياسية أو الشخصيات المهتمّة بالشؤون العامّة إلى البحث عن تحالفات والانخراط بها في سبيل تعزيز الكتلة الناخبة من حولها. تلك الحسابات هي ألف باء العمل الانتخابي، وهو ما لا يستقيم في لبنان ولا لدى السُنّة هذه الأيّام. إذ أنّ تلك الطفرة في الترشيحات واللوائح المشكَّلة لا تدلّ إلا على المزيد من التشتت داخل البيئة السنيّة، اجتماعياً وسياسياً. والسبب هو غياب الرؤية السياسية أو المشروع ذي المعالم الواضحة الذي يمكن أن يشكّل عنصراً يُبنى عليه مستقبلاً.
هناك اهتمام عربي واضح بالوضع على الساحة السنّيّة التي لا يمكن تركها للفراغ
في حالات انحطاط المجتمعات يكثر الطامحون إلى المناصب. تتغلّب وجاهة المرشح على الرؤية والمشروع، فتنمو طفيليّات كثيرة على ضفاف مستنقعات تُغرق محيطها. لكن يمكن لتلك الانتخابات أن تتحوّل فرصة لاختيار صفوة المرشّحين ومَن يُثبتون أنّهم قادرون على التأسيس لمشروع سياسي مستقبلي، وعلى إقناع الناخبين بالقدرة على تمثيلهم. الأهمّ أن تنسحب الحماسة التي أنتجت وفرة في الترشيحات على ارتفاع في نسبة المشاركة بالاقتراع وهذا غير متوقّع.
في كلّ الأحوال يبقى هذا الاستحقاق الانتخابي جزءاً من مرحلة انتقالية لا بدّ للبنان أن يعبرها. وهو الذي ينتقل من فشل إلى آخر. بالتأكيد ستُظهر نتائج الانتخابات النيابية فشل التغيير عبر الديمقراطية بالنظر إلى مشاكل المجتمع المدني البينية، لأنّ هدف معظم المتنطّحين للانتخابات هو تبوّؤ مراكز في السلطة وليس إنتاج تغيير سياسي أو اجتماعي.
لذلك لا بدّ أن يتعمّق النقاش اللبناني أكثر بعد الانتخابات في مصير النظام والتركيبة السياسية ودور السلاح في إنتاج السلطة وتداولها والتوازنات المقبلة.
معنى عودة العرب
لبنان مقبلٌ على تحوّلات سياسية واجتماعية كبيرة. لهذا السبب ستسعى القوى المختلفة إلى إثبات حضورها وإعادة تجميع قواها. فالمعركة الأساسية هي إعادة إنتاج الشرعية السياسية والنيابية للأحزاب التي ضربت شرعيتها ثورة 17 تشرين الأوّل 2019. ويبدو أنّها تمثّل أولويّة لدى البيئة السنّيّة، التي تحتاج إلى صناعة وإنتاج حلقة سياسية قادرة على إنتاج مشروع وإعادة السُنّة إلى لبّ المعادلة الوطنية. خاصة أنّه بعد الانتخابات سيواجه لبنان توازنات إقليمية ودولية ستنعكس على واقعه الداخلي. وقد يكون هناك اتّجاه إلى تعديل الدستور وموازين القوى السياسية التي حكمته منذ 2005.
تلك هي النظرة المركزية التي تنطلق منها دول الخليج العربي في إعادة إحياء علاقاتها مع لبنان. خاصة أنّ هذا الأسبوع ستشهد بيروت عودة السفراء الخليجيين، ولا سيّما السفيرين السعودي والكويتي، بعد تنسيق مستمرّ مع فرنسا ومصر وإلحاح أميركي وبريطاني.
هنا لا بدّ من الإشارة إلى الدور الأساسي الذي لعبته جمهورية مصر العربية في تركيز العودة الخليجية لإثبات الحضور وعدم الغياب بانتظار أن تحين لحظة البحث في الملف اللبناني فيكون العرب حاضرين ومن أصحاب صناعة القرار.
يفترض أن يعود السفيران الكويتي والسعودي إلى بيروت أواخر الأسبوع، للعمل على تنظيم لقاءات متعدّدة لشخصيات سياسية ورجال دين ولقاءات دبلوماسية مع معظم الدبلوماسيين الممثّلين للدول الفاعلة في الملف اللبناني. سيكون كلّ ذلك باعثاً إلى الإحياء الجدّيّ للعودة الخليجية التي تمثّل حاجة وضرورة بالنسبة إلى لبنان الباحث عن منقذ من أزماته المتوالية. لكنّ المساعدات لا يمكنها أن تقتصر على الجانبين الإنساني والاقتصادي، فهناك جهد سياسي لا بدّ من بذله. وقد كان هذا الشأن مدار مناقشات تفصيلية بين السعوديين والفرنسيين والمصريين، وسيتوسّع أكثر في المرحلة المقبلة.
هناك اهتمام عربي واضح بالوضع على الساحة السنّيّة التي لا يمكن تركها للفراغ. وإن فرض الأمر الواقع الحالي في الفترة القصيرة الفاصلة عن موعد الانتخابات التعاطي مع شخصيات معروفة وعدم التمكّن من الإعداد الكافي لإنتاج مجموعات تكون مؤهّلة مستقبلاً لخوض غمار السياسة، فإنّ برنامجاً واضحاً ستتّضح معالمه تباعاً في الفترة المقبلة.
هنا لا بد للسُنّة من أن ينخرطوا سياسياً واجتماعياً في تكوين رؤية سياسية لمستقبلهم ومستقبل البلد، الذي وُلد بجناحين إسلامي ومسيحي، ولا يمكنه الاستمرار من دون أحدهما، بخلاف كلّ الوقائع المزوّرة التي يسعى البعض إلى تكريسها والتي يبني حزب الله عليها مشروعه من خلال تفتيت المجتمعات والبيئات الأخرى من أجل أن يتسيّد عليها.
إقرأ أيضاً: العودة الخليجيّة إلى لبنان: أسئلة في الشكل والمضمون
ما هو مطروح خليجياً للبنان لا بدّ له أن يلقى صدى لبنانياً، وكان أوّل من ردّد الصدى أو صنع الصوت هو البطريرك الماروني بشارة الراعي في مواقفه المستمرّة في التميّز والريادة، حول مشروع “الحياد” الاستراتيجي. وهو يحتاج إلى صوت سنّيّ عالٍ في المقابل يلاقيه ويبني معه.