بول سون (Paul Sonne)، وشاين هاريس (Shane Harris)، ومايكل بيرنباوم (Michael Birnbaum)، وسعاد مخنت (Souad Mekhennet) – Washington Post The
كلّ يوم تقريباً، يحرص الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على بثّ فيديوهات مسجّلة، مرتدياً ثياباً بالأخضر الداكن، يخاطب فيها الشعب الأوكراني، جالساً في بعض الأحيان إلى مكتب، وأحياناً واقفاً في الخارج في ظلام الليل. وفي الآونة الأخيرة راح يحذّر من الصعوبات التي لم تأتِ بعد.
قال يوم الخميس الماضي (31 آذار)، مع مصابيح الشوارع التي تضيء خلفه منزل الكيميرا (House of Chimeras) المزخرف في كييف، وهو جزء من المجمع الحكومي: “نحن جميعاً نريد الفوز بالقدر نفسه، كلّنا، لكن ستكون هناك معارك في المستقبل. ما يزال أمامنا طريق صعب قبل الحصول على كلّ ما نسعى جاهدين من أجله”.
من بين أكثر المسارات صعوبةً، هو مواجهة زيلينسكي نفسه. لقد تطوّر الممثّل الكوميدي الأوكراني البالغ من العمر 44 عاماً من مبتدئ سياسي، موضع شكّ على نطاق واسع بين القادة الغربيين والناخبين الأوكرانيين في مرحلة ما قبل الحرب، إلى “قائد أزمة” رسّخ مكانته في تاريخ الأمّة الأوكرانية، وألهم إرادة المقاومة في الداخل والخارج بشجاعة شخصية.
جرى التقليل من شأن زيلينسكي أيضاً لدى الدول الشريكة لأوكرانيا في الغرب، بحيث نظر إليه كثير من المسؤولين على أنّه زعيم عديم الخبرة
ومع استمرار الحرب في أسبوعها السادس، واستمرار محادثات السلام بين المفاوضين الأوكرانيين والروس، يواجه زيلينسكي مجموعة جديدة من التحدّيات. من جهة، يجب أن يحافظ على الروح المعنوية، وإرادة القتال وسط الخسائر في ساحة المعركة، والدمار الاقتصادي، والمعاناة الهائلة للمدنيين. وعليه أيضاً أن يحتفظ بثقة الدول الغربية بأنّ أوكرانيا يمكن أن تتغلّب لضمان استمرار تدفّق الأسلحة.
لكن مع مرور الوقت، يجب عليه أيضاً معرفة أيّ نوع من الاتفاق السياسي مع موسكو لإنهاء الحرب سيكون مقبولاً للشعب الأوكراني الذي ارتقت آماله بعد صدّ القوات الروسية في عدد من المناطق، واستلهم روح المقاومة من أفعال زيلينسكي وأقواله. وقد تكون التسويات السياسية أكثر صعوبة أيضاً بعد ظهور أدلّة يوم الأحد (3 نيسان)، في أعقاب الانسحاب من منطقة كييف، على الفظائع الروسية المرتكَبة ضدّ المدنيين الأوكرانيين، وهو ما أثار استياءً عامّاً.
اللعب على المشاعر القومية
يقول كيث داردن (Keith Darden)، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية: “اعتمد زيلينسكي على المشاعر القومية القوية من أجل الاستمرار في خوض هذه الحرب. لكنّ هذه هي بالضبط القوى التي تجعل من الصعب جدّاً إنهاء هذه الحرب”، مشيراً إلى أنّه “من غير الواضح كم يمكن أن تستمرّ أوكرانيا في القتال. هذه هي المعضلة الحقيقية في رأيي”.
سعى زيلينسكي على مدى شهور من دون جدوى لعقد اجتماع مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لمناقشة المطالب الكثيرة لموسكو. وقال ديفيد أراخاميا (David Arakhamia)، رئيس الوفد الأوكراني في المحادثات الثنائية، يوم السبت الماضي، إنّ كييف تستعدّ لاجتماع محتمل بين زيلينسكي وبوتين في تركيا.
لكن بالنسبة إلى زيلينسكي، فإنّ أيّ صفقة مع الكرملين مقلقة سياسياً. وقد يكون أحد آثارها هو إطالة أمد الحرب إذا لم يشعر زيلينسكي أنّه يحظى بدعم الجمهور لتقديم التنازلات اللازمة لوقفها. قد يكون السبب الآخر هو أنّ الدعم الشعبي الاستثنائي له يتآكل إبّان صياغة اتفاقية السلام.
مهّد زيلينسكي مع الأوكرانيين لإنهاء مسعى البلاد المنصوص عليه دستورياً إلى الانضمام إلى الناتو، مشيراً إلى أنّ الحلف ليس مستعدّاً لقبول عضوية كييف. وبدلاً من ذلك، ركّز جهوده على تأمين عضوية الاتحاد الأوروبي. أظهر الزعيم الأوكراني المرونة العملية، حين عرّف النصر، في مقابلة مع “الإيكونوميست” الشهر الماضي، بأنّه “القدرة على إنقاذ أكبر عدد ممكن من الأرواح”. وقال: “أرضنا مهمّة، نعم، لكنّها في النهاية هي أرض وحسب”. لكنّه تعهّد في الوقت نفسه بمحاربة روسيا “حتى آخر مدينة”.
وحذّر زيلينسكي الأوكرانيين من أنّ الروس يعيدون تجميع صفوفهم في الأرجح للتركيز أكثر على مناطق أخرى، ولا سيّما تلك التي قد تواجه فيها القوات الأوكرانية الصعوبة الكبرى. ودعا الأوكرانيين إلى الاستعداد لصراع طويل.
يقول ميخائيل ميناكوف (Mikhail Minakov)، المحلّل السياسي في الشأن الأوكراني من معهد كينان (Kennan Institute): “في الوقت الحالي، يتوق الجميع إلى المقاومة، إن لم يكن التوق إلى الفوز، ثمّ ضرب روسيا قدر الإمكان”. ويضيف: “زيلينسكي في معضلة. يحاول إيجاد الطريقة الممكنة كي يبقى في منصبه، وصاحب شخصية كاريزماتية. وفي الوقت نفسه إيجاد حلّ”.
الاستخفاف به في موسكو والغرب
بعدما لعب زيلينسكي دور رئيس أوكرانيا في مسلسل تلفزيوني شهير، فاز بمنصب الرئاسة عام 2019 بدعم شعبي استثنائي، بحيث حصل على 73% من أصوات الناخبين، وحصل حزبه على الأغلبية في البرلمان الأوكراني. لقد اجتذب مجموعة واسعة ومتباينة من الناخبين من خلال جاذبيّته الشعبوية، ووعد بإنهاء الحرب في شرق أوكرانيا. لكن بحلول أواخر العام الماضي، عندما حشدت روسيا قوّاتها وعتادها على الحدود الأوكرانية، تراجعت نسبة تأييد زيلينسكي إلى حوالى 30%. واجه التعنّت الروسي، والقيود السياسية الأوكرانية، وفشل في إنهاء الحرب. أدرك فريقه القليل الخبرة صعوبة تنفيذ تغييرات كبيرة.
يشير الغزو الروسي إلى أنّ الكرملين لم يفكّر أيضاً في زيلينسكي كثيراً، إذ توقّع أن يفرّ الممثّل السابق من كييف خوفاً على حياته بطريقة من شأنها إعاقة إمكانية المقاومة. جرى التقليل من شأن زيلينسكي أيضاً لدى الدول الشريكة لأوكرانيا في الغرب، بحيث نظر إليه كثير من المسؤولين على أنّه زعيم عديم الخبرة، ولا يمكن التنبّؤ بتصرّفاته إلى حدّ ما، وأنّه فشل في تقدير خطورة الوضع الأمني.
وفي الأيام التي سبقت الحرب، أعرب مستشارو زيلينسكي عن شكوكهم في أن تغزو روسيا بلادهم. أصرّ أحد كبار المستشارين، الذي يعكس الأجواء المحيطة بزيلينسكي، على أنّ الروس “يخادعون”، ويتطلّعون فقط إلى ترهيب أوكرانيا.
كانت القوات الروسية قد احتشدت مرّة على الحدود، ثمّ تراجعت. قال مساعد زيلينسكي إنّه لا يرى أيّ سبب للاعتقاد بأنّ هذه المرّة ستكون مختلفة، وألقى باللوم على إدارة بايدن في إثارة الذعر بحديثها عن الغزو المرتقب. وأضاف أنّ المسؤولية الرئيسية لزيلينسكي هي تجنّب إخافة المصارف وهروب رؤوس المال من البلاد. لكنّ المسؤولين المحترفين في جهاز الأمن القومي الأوكراني اتّفقوا مع التقديرات الأميركية وتقديرات الاستخبارات البريطانية التي ترجِّح الغزو الروسي. وقال مسؤول أوكراني كبير إنّهم كانوا محبطين لأنّهم فشلوا في إقناع زيلينسكي بحقيقة الموقف، وشعروا أنّ أقرب مستشاريه لم يخبروه بالحقيقة القاسية بأنّ الغزو بدا وشيكاً.
لم يطلب زيلينسكي من مواطنيه إخلاء الشوارع، ولم يعلن التعبئة العامّة. ظلّت المقاهي والمتاجر في العاصمة مفتوحة حتى اللحظة الأخيرة
تحذيرات بيرنز الاستخباراتية
سافر مدير وكالة الاستخبارات المركزية ويليام بيرنز (William J. Burns) في منتصف كانون الثاني الماضي إلى أوكرانيا، والتقى زيلينسكي. ووفقاً لأشخاص مطّلعين على تلك المحادثات، أبلغ بيرنز الرئيس الأوكراني بمعلومات استخباراتية أقنعت المسؤولين الأميركيين بشأن نيّات روسيا. وأشارت المعلومات الاستخبارية أيضاً إلى أنّ فرق القتل الروسية ربّما تكون موجودة في كييف، وفقاً لمسؤولين مطّلعين على المعلومات تحدّثوا، مثل آخرين، بشرط عدم الكشف عن هويّتهم، عن مناقشات دبلوماسية واستخبارية حسّاسة.
سأل زيلينسكي عمّا إذا كان هو وعائلته في خطر. أوضح بيرنز أنّ على الرئيس أن يتعامل مع أمنه الشخصي على محمل الجدّ. وقال المسؤولون الأوكرانيون إنّ زيلينسكي كان متشكّكاً. وقال كبير مستشاري زيلينسكي إنّ المعلومات التي شاركهم بها بيرنز بدت رهيبة، لكن، في رأيه، لم تكن محدّدة بما يكفي لكي يتصرّف الأوكرانيون. تشكّك المسؤولون الأميركيون في هذا التوصيف، مشيرين إلى أنّه أثناء لقاء زيلينسكي وبيرنز، كانت إدارة بايدن قد رفعت السرّيّة فعلاً عن المعلومات الاستخبارية، بما في ذلك صور الأقمار الصناعية التي أظهرت القوات الروسية وهي تتحرّك في تشكيلات هجومية.
لم يطلب زيلينسكي من مواطنيه إخلاء الشوارع، ولم يعلن التعبئة العامّة. ظلّت المقاهي والمتاجر في العاصمة مفتوحة حتى اللحظة الأخيرة. ويقول مسؤول أمني غربي سابق في كييف، إنّه كان مندهشاً لأنّ الحكومة لم تكن تُجري اختبارات متكرّرة لصفّارات الإنذار والغارات الجوية والتدريبات العامّة.
خلال معظم شهر كانون الثاني، عندما وجّهت الولايات المتحدة وحلفاء آخرون في الناتو تحذيراً تلو الآخر إلى الأوكرانيين بشأن التعزيزات الروسية على حدودهم، كان المشهد السياسي في كييف يركّز على اتّهامات الخيانة الموجّهة ضدّ سلف زيلينسكي، الرئيس السابق بيترو بوروشنكو (Petro Poroshenko).
ظهور بطل
بعدما غزا الروس أوكرانيا وحاولوا الاستيلاء بسرعة على كييف، أظهر زيلينسكي صلابة أكبر بكثير ممّا توقّعه السياسيون في كلٍّ من روسيا والغرب. رفض مغادرة العاصمة حتى عندما حاول أولئك الذين يعتزمون قتله دخول المدينة.
قال ميناكوف: “لقد فوجئت بشكل إيجابي. أنا أرى عاطفة هذه الكاريزما، وأحترمه لما يفعله. وهذا شعور غير عادي في أوكرانيا، لأنّنا لا نحترم السياسيين عادة”.
حتّى بعد ظهور شجاعة زيلينسكي، ما زال الكثيرون حول العالم يتوقّعون قتله على يد الغزاة الروس في كييف أو إجباره على الفرار من العاصمة في غضون أيّام. لكنّ أداء الجيش الأوكراني كان أفضل بكثير ممّا توقّعه الكثيرون. بالمقابل، أخطأ الروس في حساباتهم وفي ترتيباتهم اللوجيستية، وهو ما أدّى إلى وقف تقدّمهم نحو العاصمة.
ومع احتمال لقاء بوتين شخصياً في النهاية لإجراء محادثات سلام، يتسلّح زيلينسكي بدعم سياسي كبير، فضلاً عن النجاحات في ساحة المعركة. إنّه يواجه اختباراً بشأن ما إذا كان بإمكانه استثمار رأس المال السياسي في سلام دائم مقبول لدى معظم الأوكرانيين.
ليس من الواضح ما إذا كانت اللحظة مناسبة، حيث لا تزال القوات الروسية مصمّمة على الاستيلاء على المزيد من الأراضي في الشرق، وأوكرانيا حتى الآن غير مستعدّة للتخلّي عن أيّ من الأراضي التي طالبت بها روسيا منذ 24 شباط الماضي.
يقول سيرهي ليششينكو (Serhiy Leshchenko)، العضو السابق في البرلمان الأوكراني، ويتولّى الآن منصب مستشار رئيس أركان زيلينسكي، إنّه على الرغم من الرغبة في مواصلة المقاومة، ربّما يكون هناك أوكرانيون أخفض صوتاً تحت الحصار ممّن يريدون اتفاقاً لوقف القتال، ويحتاجون إليه.
إقرأ أيضاً: لا مصلحة أميركية بسقوط بوتين
قال ليششينكو، قبل أن يشير إلى المعضلة التي تواجه زيلينسكي: “لدى الأشخاص الذين يعيشون تحت القصف في ماريوبول وخاركيف وتشرنيهيف، دخول أقلّ بكثير إلى وسائل التواصل الاجتماعي من الذين هم في مكان آمن. يريد الناس وقف الحرب، وعودة الحياة الطبيعية، ويريد الناس الدفاع عن أوكرانيا وحمايتها من المعتدي. ولا يريدون أن يفقدوا الأرض ولا السيادة”.