لا مكان لغير السياسة في بيروت. لكنّ الزمن استحال أفولاً. ليس ما يفتح الشهيّة السياسية لدى أهل المدينة.
على أبواب رمضان تجد بيروت نفسها حزينة، وكأنّها الأمّ التي خسرت أبناءها. أبناؤها ليسوا الذين ولدوا فيها فقط، بل وأولئك الذين احتضنتهم آتين إليها من كلّ المناطق. هي “عنقود الضيع” كما سمّاها الشاعر عصام العبد الله. وهي العاصمة العربية التي تتعرّض لمؤامرة تاريخية منذ أكثر من دهر.
بيروت التي طبعت ما كتبته القاهرة، ووزّعت نسخاً إلى بغداد وأقاصي الأرض لإغناء مكتبات العالم، تجد نفسها يتيمة اليوم. ليس ما ينهض بها سوى أبنائها، وذلك يتخطّى السياسة والتعداد
فهناك من أعلن جهاراً نهاراً أنّه أراد أن يدفن المدينة في ضريح رفيق الحريري، لكنّها انتفضت، وقامت من بين الركام، وهي الخبيرة بذلك. حاليّاً يُراد أيضاً إطفاء قلب بيروت، والكلام هنا في السياسة وغيرها.
لا أقسى من العبور في شوارع المدينة ليلاً، فتعود بنا الذاكرة إلى سنوات الحرب. الشوارع مقفرة، هجرها الشباب، والعتمة تملأ الأفق، وتزدحم مظالم الأقربين والأبعدين، ويخيّم الظلام الدامس، بلا كهرباء، ولا حياة. كأنّ القلب منتزَعٌ، وقد توقّف عن الخفقان. كأنّ الأرض كفّت عن الدوران هنا في شوارع المدينة.
هي مدينة كانت وصلت إلى حدود الشمس، لكن هناك من يصرّ دوماً على سرقة الشمس من سمائها. وسرقة سحر أضوائها بصخبها وضجيجها. لا تحتاج بيروت إلى من يتقاتل على تقاسم فتاتها. ولم تكن بحاجة يوماً إلى مدّعين. هي العاصمة الأولى التي واجهت الاحتلال الإسرائيلي، وطردته بعدما تجرّأ عليها. وهي أشرف العواصم، التي خرّجت مقاومات وعلّمت فنون القتال بزيت غلته الناس كما تغلي قلوبهم ودواخلهم في هذه الأيام حسرة وسكبته على رؤوس المحتلّين.
بيروت من تعب، ومن ذهب، وأندلسٍ وشام. لم تُخرّج عاصمة السحر العربي والشرق الأوسطي، لا التافهين ولا الوصوليّين. لكنّهم اليوم يغزونها. هي التي خرّجت حركات سياسية ومقاومة، ثمّة من يأتي لطعنها واتّهامها بتاريخها.
عدم القدرة على كسر المدينة يتمّ الالتفاف عليه بقطع الكهرباء عنها، بخنق أبنائها، بإلحاقها بمشاريع لا تشبه هويّتها، وستزيد من عزلتها وقفر شوارعها. وهي التي تجمّع أبناؤها على قلب رجل واحد في الحرب وبعدها في السلم، فواجهوا الظلم، ودخلوا عصر النهضة على يدي رفيق الحريري. هي التي لا بدّ من العودة إلى زمنها.
بيروت التي صبرت على هويّتها وتاريخها، وعلى محاولات تغيير معالمها، لا يمكن لها أن تصمت على تغيير هويّتها السياسية، ولا يمكن لها أن ترتضي الرضوخ لمشروع إيراني يغرز خنجراً في قلب منارة العرب
كيف نستعيد بيروت؟
بيروت التي طبعت ما كتبته القاهرة، ووزّعت نسخاً إلى بغداد وأقاصي الأرض لإغناء مكتبات العالم، تجد نفسها يتيمة اليوم. ليس ما ينهض بها سوى أبنائها، وذلك يتخطّى السياسة والتعداد. يتخطّى أشخاصاً واستحقاقات انتخابية، ليطول وجوب إعادة إحياء الحركة السياسية والفكرية والثقافية في المدينة.
بيروت التي تحاكي في مصابها مصاب صنعاء ودمشق والموصل والبصرة والشام وحلب وفلسطين من عكار إلى النقب، في أشرس عملية تهجير وتغيير ديمغرافي شهدتها مدن العرب، تمهيداً للانتقال إلى عملية التهجير السياسي أو تغريب أبنائها عن السياسة وعن قضاياهم الوطنية. هي بيروت التي تحتاج إلى وقفة الجميع في أحيائها وشوارعها لإعادة إنضاج وقفتهم، وإنتاج تراثهم.
وقفة لا بدّ منها لمواجهة هجمة التجار والمقاولين والسماسرة، في ظلّ غياب سياسة وطنية لحماية التراث وحماية السياسة. من سوق الطويلة، إلى العنتبلي. ومن شارع البطريرك الحويك، إلى التياترو الكبير. من المزرعة إلى الفاكهاني، ومن عفيف الطيبي إلى الطمليس. فبيروت التي خسرت جماليّتها العمرانية تخسر اليوم هويّتها السياسية، وهو ما سيسأل التاريخ عنه أبناءها. فلا يمكن لبيروت أن تسقط، ولا أن تذهب ضحيّة على موائد اللئام وإن كانوا من أبنائها أو من غيرهم. إنّها بيروت التي لا تنقسم، ولا تقول لأبناء المدن والجبال: مَن أنتم؟ أو: مَن أتى بكم؟
بيروت التي صبرت على هويّتها وتاريخها، وعلى محاولات تغيير معالمها، لا يمكن لها أن تصمت على تغيير هويّتها السياسية، ولا يمكن لها أن ترتضي الرضوخ لمشروع إيراني يغرز خنجراً في قلب منارة العرب. بيروت الثائرة التي تستدعي ثوّارها مجدّداً من البسطة التحتا، إلى زقاق البلاط، حيّ اللجا، الباشورة، وغيرها من الأحياء، التي أصبحت خالية تماماً من المنازل والعائلات البيروتية، لا بدّ من العودة السياسية والثقافية والفكرية إليها.
إقرأ أيضاً: رهان الانتخابات رهانٌ على مستقبل لبنان
غادر البيارتة عاصمتهم إلى بشامون وعرمون بسبب تراخيهم نتيجة عيشهم لسنوات على أمجاد قديمة وعزّ غابر، وهو ما دفعهم إلى الاسترخاء في مواجهة المدّ السكني إليها من خارجها. تلك الجرأة في فتح أبوابهم أمام سكان المناطق الأخرى هي مدعاة فخر لهم، فهذا الانفتاح هو الذي حتّم أن تكون بيروت هي العاصمة، التي تحتضن الجميع، وتحوي أهمّ الجامعات، على الرغم من الثمن الكبير الذي دفعته، وهو ذوبان هويّتها القديمة، التي لا يمكن التخلّي عنها لا في الانتخابات الآتية ولا بعدها.