رهان الانتخابات رهانٌ على مستقبل لبنان

مدة القراءة 6 د

لا أحسب أحداً في لبنان أو في دنيا المشرق العربي سمع عظة البطريرك الراعي يوم الأحد في 27/3/2022 إلّا وتجدّد لديه الوعي لضخامة المشكلات التي تُعاني منها بلادنا.

لقد أوضح البطريرك في تعداده المخيف للقضايا والمشكلات الكبرى والصغرى أنّه لم يبقَ شيءٌ سالماً، وأنّ كلّ شيء بناه اللبنانيون في قرابة مئة عام صار ركاماً أو هشيماً تذروه رياح الشؤم والزمهرير في هذا الشتاء القاسي الذي ما عرف لبنان مثيلاً له منذ عقود، تماماً كما هي حال أزمتنا الراهنة التي لا مثيل لها على الرغم ممّا عرفته بلادنا المشهورة بالأزمات المتكاثرة.

ستأتي الانتخابات وتذهب. لكنّها إمّا أن تكون في نتائجها داعية تغيير، أو يكون على اللبنانيين الصبر في الأسْر وهاوية الانهيار، وليس لأربع سنوات، بل وإلى أجلٍ غير مسمّى

كنّا نمزح مع الراحل الأستاذ غسان تويني بسبب شعاره الشهير عن حروب الآخرين على أرض لبنان. وربّما كانت علّة هذا الهول الهائل في هذه السنوات: الازدواجيّة! بمعنى أنّ هناك حرباً على لبنان الكيان والدولة من جانب إيران وتنظيمها المسلَّح المسيطر في البلاد. وهناك حربٌ أخرى يقودها المتسلّطون من حلفاء الحزب المسلَّح على سائر المؤسّسات في تدميرٍ بدا عشوائيّاً، ثمّ اتّضح أنّه منظّم ومتتابع بحيث لا يبقى حجر على حجر. عند الحزب المسلَّح لا عِلّة للحرب على الوطن والدولة إلّا الارتهان للمصالح الاستراتيجية الإيرانية التي ما يزال رئيس جمهوريّتنا يعتبرها مقاومة. لا قيمة للبنان في عقيدة الحزب المسلَّح إلّا بقدْر ما يخدم الرهانات الإيرانية. أمّا عند المتسلّطين فإنّ الساحة تخلو لصهر الرئيس فيستخلفه المسلَّحون على رقابنا، كما سبق أن استخلفوا عوناً علينا. ولستُ أفهم عِلَل استمرار غرام الرئيس بالمقاومة المزعومة، لكنّني لستُ أفهم أكثر وأكثر هل يستحقّ جبران باسيل كلّ هذا التمهيد التدميري للوطن والدولة من أجل أن يصبح رئيساً، وما قيمة الرئاسة، ولا سيّما بعد ذهاب الدولة ومؤسّساتها وشعبها الذي تحوّل إلى متسوّلين على أبواب البنوك أو على مستوعبات القمامة!

منذ تدمير المرفأ قلت وكرّرتُ أنّه لا يجوز تمسيح الجريمة كأنّما هي ارتُكبت ضدّ المسيحيين. وإذا ظننتم أنّ القاضي فلان أو علّان هو أَيقونة العدالة المقدّسة، فسيجد المسلّحون والعونيون قضاةً مسيحيين آخرين لتدميركم أنتم وتدمير ما تبقّى من قضاء والذي كان قضاءً وصار قضاءً وقدراً(!). توقّف التحقيق في جريمة المرفأ أو كاد، واندفع قضاة وقاضيات لضرب كلّ الآخرين سمعةً وفاعليّة.

وقلت وكرّرت، وليس لأنّني عليمٌ بالغيب، أنّ عنف الحزب المسلَّح فاقد للأخلاقيّة والحقّ. ومقابلته بالعنف، حتى لو استعصى الصبر، واستعصت الكرامة، يضع المواطنين المظلومين في نفس سلّته أو في شبيهها.

يستنكر غبطة البطريرك ما نزل بالقضاء، كما بسائر الجهات والمؤسّسات، والسواد الأعظم من المواطنين يصدّقونه، ويحمدون له شجاعته. لكنّ الداء استشرى، وقد بدت أمائره ومعالمه وأعراضه من سنواتٍ وسنوات. والعجيب استنامتنا واستسلامنا إلى ما بعد انتخابات العام 2018 مع أنّ الفضيحة كانت قد وقعت وفاحت رائحتها المنتنة. أمّا أنا فقد اعتبرتُ مخطئاً أنّ سعد الحريري رئيس السلطة الإجرائية يتحمّل المسؤولية الكبرى. ولذلك فقد انصرفت منذ العام 2017 إلى نقده في المقالات والفضائيّات. والحريري يتحمّل قدراً من المسؤولية، إنّما أين هو من الرئيس وصهره وعصبته ومن زعيم الحزب المسلَّح وأنصاره المتحمّسين الذين ما يزالون منصرفين إلى الوقوف تحت رايات الجنرال سليماني وقداسته! سعد الحريري فشل فانسحب كفريق سياسي، وانهمك مع أعوانه في دعم هذا أو ذاك أو في تزهيد الناس في الاقتراع. لا يمتلك الحريري رقاب الناس في حضوره وغيابه. وإذا غاب بسبب الفشل فلا يجوز أن يغيب المسلمون لأنّهم أحرار، ولأنّ عندهم وطناً ينبغي أن يحرصوا عليه، ودوراً يحرصون على صونه وتنميته.

 

ماذا يفيد هذا كلّه الآن؟

أشهد أنّ عظة البطريرك اليوم (وأنا أكتب مساء الأحد) ما سمعتُ مثلها منذ خطابه الشهير وهو يطلّ على الجمهور المحتشد في بكركي قبل عامين ونيّف. لا ينبغي بالطبع أن يستولي علينا اليأس. ولا سبيل باقٍ لمواجهة دمار الدولة والمجتمع إلّا بالسلم الواعي والمصمِّم والعازم، وهو الانتخابات. كثير من المسلمين والمسيحيين، ومن المسلمين أكثر، يقولون: ماذا تنفع الانتخابات؟ وكيف يحدث التغيير ولدى المسلَّحين جمهورٌ كبير؟! بيد أنّ ما لا يُكسَبُ كلُّه لا يُتركُ جُلُّه. فالمهمّ هو شجاعة المبادرة بالإقبال على صناديق الاقتراع. فهذا هو الأمر الذي يشكّل الخطوة الأولى والأهمّ. فالذين تكون لديهم العزيمة في الذهاب إلى الصناديق لن يعودوا إلى بيوتهم وكفى، بل سيبادرون أيضاً وأيضاً كما بادروا في حراك العام 2019. هو منطق الدفاع عن النفس بالصمود والإقدام. ولو أنّ الأوكرانيين يئسوا وجلسوا في بيوتهم بسبب ضخامة القوة الروسية، لَما ساد خطاب الدفاع التحريري الذي يشهده العالم الآن. شئنا أم أبينا فإنّ الانتخابات الآن هي مبادرة التغيير بحيث تكون استفتاءً ديمقراطياً على إدانة هذا العهد وعملائه ومسلّحيه وفاسديه. هو الإيمان بالنفس وبالحرّية التي يستحقّها الشعب اللبناني، وما عاد هناك مجالٌ أو خيارٌ في الانتظار أو تصبح الأعباء والتكاليف غير ممكنة التحمّل.

 

ماذا بقي لنا لكي نصبر عليه أو به؟

وطننا صار بسبب حُكّامه الفاسدين والثأريّين بيئةً لكلّ الرذائل والأراذل. وأن نسعى إلى الهجرة بكلّ سبيل أو نختبئ في منازلنا كلّ ذلك لن يُضعف المسيطرين بل سيزيدهم جرأةً علينا. إنّما ماذا يفعل الذين لا يجدون مرشّحين ملائمين أو تغييريين لكي يُصوّتوا لهم؟ أنا واثقٌ أنّ الذين يريدون الانتخاب سيجدون بين اللوائح المتعدّدة في كلّ منطقةٍ من يختارونهم للتأييد أو التصويت.

إنّني متأكّدٌ مثل لبنانيين كثيرين أنّ الرهان على الانتخابات هو رهانٌ على مستقبل لبنان. لا يمكن أن تكون انتخابات العام 2022 مثل انتخابات العام 2018. يومَها ازداد الفاسدون والمتآمرون قوّةً لأنّ معظم المسلمين لم يذهبوا إلى صناديق الاقتراع. عدم الذهاب ليس خياراً عاقلاً أو مأنوساً لأنّه سيزيد المعاناة، ولن يوصل مَنْ يحملون أملاً أو استقامةً إلى الندوة النيابية. لا يجوز أن يجتمع المجرمون على باطلهم، وأن يُعرِض ذوو الاستقامة عن الوقوف مع حقّهم، كما كان الإمام علي يقول.

قال لي كهلٌ عراقيّ قابلته في أبوظبي: ما نجح الشبّان التغييريون عندنا لأنّ كلمتهم لم تجتمع على الرغم من أنّهم قدّموا في تظاهراتهم ثمانمئة ضحية. لكن أن يحصل مقتدى الصدر على نتائج مشرّفة، أفضل بكثير من البقاء في أسْر المالكي والإيرانيين.

إقرأ أيضاً: الإقبال على صناديق الاقتراع للإنقاذ!

ستأتي الانتخابات وتذهب. لكنّها إمّا أن تكون في نتائجها داعية تغيير، أو يكون على اللبنانيين الصبر في الأسْر وهاوية الانهيار، وليس لأربع سنوات، بل وإلى أجلٍ غير مسمّى!

الاستجابة لداعية النفير من أجل التغيير هي أملٌ في مستقبل لبنان.

مواضيع ذات صلة

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…

على باب الاستقلال الثّالث

في كلّ عام من تشرين الثاني يستعيد اللبنانيون حكايا لا أسانيد لها عن الاستقلال الذي نالوه من فرنسا. فيما اجتماعهم الوطني والأهليّ لا يزال يرتكس…