ماتت الشاشة الكبيرة (المتوسّطة عمليّاً لأنّ الكبيرة هي السينما) لمصلحة شاشات التواصل الاجتماعي، خصوصاً في حمأة انقطاع التيار الكهرباء في هذا البلد المقيت، فلم تعُد وظيفة التلفاز في بيتنا إلّا عرض نشرة الأخبار عند المساء، ثمّ تُصمته أم زهير بكبسة واحدة: Mute… ثمّ صلّى الله وبارك.
لكن بين الحين والآخر يحاول مالك خدمة الستالايت في حيّنا أن يغيّر لنا الجوّ، فيعيدنا إلى الزمن الجميل من خلال عرض المسلسلات والأفلام القديمة فيذكّرنا بأيام خلت. أيام الشباب والرعونة: “سفر برلك”، “بيّاع الخواتم”، “عشرة عبيد صغار” (وما أكثرهم هذه الأيام)، أو مسلسلات سورية قديمة وجميلة مثل “صحّ النوم” للثنائي نهاد قلعي ودريد لحام، ومعهما فطوم حيص بيص وأخوها ياسينو.
أبهرني التشابه بين مأمون بيك وبين القاضي نوّاف سلام. شَبَه مخيف في الشكل وربّما في الأحداث، لدرجة أنّني كلّما أسمع بأحد يتلفّظ باسم القاضي نوّاف سلام يذهب عقلي إلى إسقاط هذا على ذاك لاإرادياً
لكن أخيراً عمد مالك الستالايت إلى عرض مسلسل ممجوج خُنقنا لسنوات واسمه “باب الحارة”. عرضه بأجزائه العشرة، مدري الـ11، ما عدت أذكر. فأنا أبغض هذا المسلسل ولا أحبّه أبداً، لأنّه لم يستطع على مدى عقد من الزمن الخروج من فكرة مقاومة “الفرِنساوي”، ومن ذاك الفكر المزيّف الذي يصوّر المجتمع السوري بطريقة بدائية ومتخلّفة، إضافة إلى أنّ أحداثه لم تتغيّر ولم تتبدّل على الرغم من تبدّل الجيوش والميليشيات في سوريا منذ اندلاع الثورة إلى اليوم… ومع ذلك بقي العداء للفرنساوي فقط (يا سبحان الله)!
صاحب الستالايت يفعل الأمر نفسه، إذ نفخني بعرضه بشكل متواصل، وذلك على طريقة السينمات التي انتشرت في الأحياء ببيروت خلال الحرب الأهلية مثل الفطر، ومنها سينما سلوى، وسينما بيروت، وسينما كارمن “رزق الله”… وذلك إلى حدّ أنّني بتّ أحفظ الحلقات وتفاصيلها عن ظهر قلب، بعدما اعتدت أن أفتح التلفاز وأتركه يكلّم نفسه. إذ يكفيني أن يحدث جلبة داخل البيت بعد سفر زهير إلى السعودية وتركي وحيداً.
لكن على الرغم من سخافة هذا المسلسل، وكرهي له، فقد استرعت انتباهي أخيراً شخصية مأمون بيك التي دخلت حارة الضبع في الجزء الخامس. أبهرني التشابه بين مأمون بيك وبين القاضي نوّاف سلام. شَبَه مخيف في الشكل وربّما في الأحداث، لدرجة أنّني كلّما أسمع بأحد يتلفّظ باسم القاضي نوّاف سلام يذهب عقلي إلى إسقاط هذا على ذاك لاإرادياً.
نوّاف بيك فكّر مليّاً. شاور نفسه وفاضل بين الخيارات المتاحة، فاكتشف أنّ أقصى ما يمكن الوصول إليه في ظروف سياسية مشابهة هو مقعد نيابي (يا دوب). مقعد يتيم أو ربّما مقعد معزّز بكتلة مشابهة لكن متواضعة، ومن كلّ وادٍ عصا
لم أسمع صوت القاضي سلام يوماً، ولم أرَه على التلفاز، لكنّه مع ذلك كان في نظر الكثير من الناس بمنزلة “المخلّص”، خصوصاً بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 على السلطة (الفرنساوي)، وكلّما مرّ بيان أو حديث عن نوّاف بيك لا أتصوّر إلا مأمون بيك.
فكلاهما من البكوات (مأمون بيك، ونواف بيك سلام)، وكلاهما عائدان من الغرب، وكلاهما يطمحان إلى تزعّم الحارة. مأمون أغرى أهل الحارة بالمال، فيما نوّاف أغراهم بعلمه ومكانته وخبراته الدبلوماسية والرضى العربي المزعوم. مأمون يريد زعامة “حارة الضبع”، فيما نوّاف بيك كان يفكّر في زعامة العاصمة بيروت، أمّ الحارات و”عنقود الضيع”.
لكن على الرغم من هذا كلّه، ثمّة فرق بين الاثنين يتعلّق بمصير كلّ منهما. وهذا الفرق ليس بسيطاً إن كان في الواقع أو في المسلسل: فمأمون قتلته فريال، زوجته. أرْدَته بطلقة واحدة أمام أهل الحارة. أمّا نواف بيك، فاستدرك ذلك وكان أذكى من مأمون. “فركها” نوّاف بيك قبل أن تُرديه الانتخابات، أو تغدره الحارة (بيروت)، وربّما “شمّع الخيط” أيضاً قبل أن يُرديه فؤاد السنيورة بطلقة انتخابية طائشة.
نوّاف بيك فكّر مليّاً. شاور نفسه وفاضل بين الخيارات المتاحة، فاكتشف أنّ أقصى ما يمكن الوصول إليه في ظروف سياسية مشابهة هو مقعد نيابي (يا دوب). مقعد يتيم أو ربّما مقعد معزّز بكتلة مشابهة لكن متواضعة، ومن كلّ وادٍ عصا.
إقرأ أيضاً: هل ضبّ ميقاتي “النأي بالنفس” مع الشتوي؟
هو مقعد بلا “تجنيد خارجي” وخامته رخوصة. مقعد لن يجلب إلاّ المتاعب والعتب واللوم والتذمّر وربّما الشتيمة… وكلّ ذلك مقابل حفنة من الليرات توازي 500 أو 600 دولار بدل “وجع راس”. فكّر نواف بيك جيّداً، عدّ للعشرة وأكثر، ثمّ فاضل بين حبّة السنيورة المحشوّة بازيلا بدل الفستق الحلبي، وبين ورق العنب، ففضّل ورق العنب الأخضر “الفريش” النظامي، العادل، والدولي… مبروك عليه.
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب