تفاخر الديكتاتور بول بوت بتكديس الجماجم البشرية التي ارتفعت على أعلى قمّة بناء في كمبوديا، فانتهى قائد الخمير الحمر مسموماً في سجنه. دمّر الديكتاتور أدولف هتلر بلده قبل غيره من الدول بعدما اجتاح ودمّر دول أوروبا وشمال إفريقيا، ثم مات منتحراً لعدم تحقيقه ما يصبو إليه .أمّا الديكتاتور بينيتو موسوليني فعُلِّق مشنوقاً على عمود، بعدما مارس أشنع عمليات القتل بحقّ الإيطاليين قبل غيرهم.
لكنّ مصير ستالين لم يكن كمصير ديكتاتوريين آخرين. اجتاح البلدان الأوروبية، وأباد مجموعات إنسانية وكلّ من اشتبه فيه معارضاً لحكمه، فهجّرهم أو ملأ بهم معتقلاته الجماعية (الغولاغ). في مقابل ذلك أنعم عليه الغربيون بـ”صمت” عمّا ارتكبه لحاجتهم إليه في محاربة هتلر والنازيّة، فدُفن إلى جانب لينين في جدار الكرملين كأحد عظماء روسيا والاتحاد السوفياتي.
يعارض بوتين حاليّاً أيّ مساس بسمعة ستالين، معتبراً أنّ فتح ملفّاته هدفه تقويض قوّة روسيا. لا بل هاجم الرئيس الروسي الحالي عدّة مرّات كلّاً من نيكيتا خروتشوف وليونيد بريجنيف، ليس فقط لأنّهما كشفا عن جرائم ستالين، ذي الأصل الجورجي، بل أيضاً لأنّهما من أصول أوكرانية.
تسقط مزاعم بوتين بأنّ اجتياحه أوكرانيا يهدف إلى إنهاء القوميين الأوكرانيين والقضاء على النازيين الجدد. فهو وحزبه، كما مجموعة كبيرة من الأحزاب الروسية، رموز الأحزاب القومية
اتّهم بوتين رئيس السوفيات الأعلى والأمين العام للحزب الحاكم نيكيتا خروتشوف بسلخ أراضي شبه جزيرة القرم عن روسيا ومنحها إلى أوكرانيا. وكرّر الاتّهام نفسه لليونيد بريجنيف خليفة خروتشوف.
وإن عدنا إلى ما ساقه بوتين من أقوال قبل غزوه أوكرانيا، يتبيّن أنّه على شاكلة جميع الذين يلجأون إلى شعارات شعبوية وقومية لتأطير الحشد في حرب مدمّرة على الشعب الروسي قبل الشعب الأوكراني.
طرح بوتين أنّ حربه تهدف إلى منع انضمام كييف إلى الناتو، ومنع وصول الغرب والحلف الأطلسي إلى حدود روسيا المباشرة و”تهديد” موسكو. تجاهل بوتين أنّ حلف الناتو بمؤتمره في بوخارست في 2008 رفض انضمام كلّ من أوكرانيا وجورجيا إليه. وأضف إلى ذلك، رفض الحلف الثابت ضمّ أيّ دولة إليه تعاني من صراعات ونزاعات حدودية. ولا يغيب عن بوتين، رئيس الدولة التي تصنع الصواريخ على أنواعها، قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، أنّ تجاور الجيوش على الحدود لم يعد ذاك الخطر المحدق بموسكو وبمدن روسيا مع امتلاكها صواريخ مؤهّلة لإصابة أيّ هدف حول العالم.
تركيا ومحاصرة الناتو
تناسى بوتين أنّ جيشه في 2008، وفي ظلّ صمت غربي فاضح، اجتاح الجمهورية المستقلّة جورجيا بحجّة دعم أبخازيا وأوسيتيا لنيل حكمهما الذاتي. فيما الحقيقة أنّ الهدف كان الاقتراب من تركيا، الدولة المنضوية في الناتو، لتطويقها. وبعد ذلك في عام 2014 اجتاح شبه جزيرة القرم التي لم تكن تنوي الانضمام إلى الناتو، ثمّ أكمل في العام 2015 محاصرته دول الناتو عندما بنى قاعدة حميميم الجويّة في سوريا قريباً من قاعدة إنجرليك التركية، وزوّدها بأحدث منظوماته من صواريخ S-400 وبالقاذفات الاستراتيجية، قبل أن يوقّع مع النظام السوري على اتفاق يسمح له بالاستفادة من قاعدتيْ طرطوس واللاذقية (القريبتين من إنجرليك) لتأمين حركة أسطوله البحرية في مواجهة دول الناتو في جنوبي أوروبا، وللسيطرة على شرقي البحر الأبيض المتوسط وشمالي إفريقيا.
يعارض بوتين حاليّاً أيّ مساس بسمعة ستالين، معتبراً أنّ فتح ملفّاته هدفه تقويض قوّة روسيا
فمَن يطوِّق مَن في هذه الحالة؟
أسفر غزو بوتين أوكرانيا عن إحاطة جيشه بشرق وشمال وجزء من غرب البحر الأسود ممهّداً بذلك لأن يمدّ نفوذه إلى مولدوفا، وفيما بعد إلى رومانيا وبلغاريا، والسيطرة على كامل الدول المطلّة على البحر الأسود.
في الموازاة، تسقط مزاعم بوتين بأنّ اجتياحه أوكرانيا يهدف إلى إنهاء القوميين الأوكرانيين والقضاء على النازيين الجدد. فهو وحزبه، كما مجموعة كبيرة من الأحزاب الروسية، رموز الأحزاب القومية، إضافة إلى أنّ الرئيس الروسي يُعتبر الداعم الأول للأحزاب القومية داخل الاتحاد الروسي، ويتخطّاه إلى دعم أحزاب مشابهة حول العالم. فهل يسمح بالشعور القومي في روسيا ويمنع الشعب الأوكراني من الشعور القومي؟
أمّا بشأن مزاعمه عن تغلغل النازيين الجدد في أوكرانيا وسيطرتهم على مقاليد السلطة، فتكذّبه حقيقة أنّ النازيين اتّحدوا في لائحة واحدة في انتخابات 2019 بوجه الرئيس فولوديمير زيلينسكي ولم يفوزوا بأيّ مقعد في البرلمان الأوكراني. وقد اعترف بوتين بشرعية زيلينسكي، لا لاستمراره بحكم أوكرانيا، بل للتوقيع على صكّ الاستسلام في المفاوضات الجارية.
إقرأ أيضاً: بوتين يفجِّر قنابل ستالين: الاستيطان الروسي
يعاني بوتين من عزلة عالمية خانقة قلّ نظيرها في التاريخ. تشتدّ جوّاً وبحراً واقتصاداً عبر العقوبات الموصوفة بالأكبر. يعتقد البعض أنّ بوتين كان مستعدّاً للعقوبات، غير أنّه بالتأكيد فوجئ بعمقها وبمداها وباتّساعها وبشموليّتها. فقد وحّد غزو أوكرانيا حلف الناتو وأيقظه بعدما كان في موت سريريّ. خدم الغزو دول الحلف وساعد أوروبا على التوحُّد بعد تناقضاتها الداخلية المتلاحقة في السنوات الأخيرة. حتى إنّ سويسرا وفنلندا والنمسا تخلّت عن الحياد “السلبي”، فيما قرّرت ألمانيا مدّ أوكرانيا بالأسلحة الفتّاكة، وتخصيص 100 مليار يورو لمنظوماتها الدفاعية.
في القرن الواحد والعشرين تصرّف بوتين بعقليّة القرن العشرين حين استلهم روح ستالين وتبيّن أنّ مبادئ الأخير متركّزة في عقل بوتين، وكأنّ ستالين الديكتاتور غير قابل للتحلّل .
* كاتب لبنانيّ مقيم في دبي