تفوّق بوتين على هولاكو وجنكيزخان وهتلر وبول بوت. فالرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين دمّر غروزني متقصّداً هدم أحياء العاصمة الشيشانية وتسويتها بأرض شوارعها، ولم يُبقِ حجراً على حجر، حتى إنّ ما تبقّى من آلات موسيقية عاديّة طارت وترامت بالأزقّة. وتحضرنا الصورة الفوتوغرافية الشهيرة للبيانو القائم في وسط طريق غروزني أكثر من ذاك الفيديو التسويقي لبوتين وهو يعزف على البيانو في صالات الكرملين. كلّ ذلك لأنّ الشيشان نادت بحكم ذاتي ضمن الاتحاد الروسي .
في مقابل رفض بوتين طلب الشيشان حكماً ذاتياً، فقد دعم الانفصاليّين في جمهورية جورجيا (أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا) لنيل استقلالهم والسيطرة على الأراضي المطلّة على شاطئ البحر الأسود.
تحت شعار حماية الأقلّيّة الروسيّة التي تشكّل حوالي 18 في المئة من سكان أوكرانيا البالغ عددهم 43 مليون مواطن، هاجم بوتين أوكرانيا مدمّراً أجزاء من عاصمتها ومن مدنها وبنيتها التحتية ومطاراتها ومرافئها الواقعة على البحر الأسود وسكك حديدها ومصانعها
على النسق نفسه دعم بوتين انفصاليّي بساربيا (ترانسنيستريا)، الواقعة على الحدود الفاصلة بين أوكرانيا ومولدوفا والمطلّة على البحر الأسود، للانفصال عن مولدوفا وتشكيل إقليمهم الذي لم تعترف به أيّ دولة لأنّه حبيس موسكو. ساعد هؤلاء الانفصاليّين على التدمير بحجّة أنّهم أقلّيّة روسيّة، فعبثوا باستقرار مولدوفا الواقعة ما بين أوكرانيا ورومانيا. الأمر ذاته كرّره بوتين قبل عدّة أسابيع عندما أنزل جيوشه في كازاخستان بحجّة وجود أقلّيّة روسيّة فيها، فيما كان تدخّله في الحقيقة لحماية حليفه السابق نور سلطان نزارباييف ودعماً لحليفه الحالي قاسم توكاييف صنيعة نزارباييف وخليفته.
تحت شعار حماية الأقلّيّة الروسيّة التي تشكّل حوالي 18 في المئة من سكان أوكرانيا البالغ عددهم 43 مليون مواطن، هاجم بوتين أوكرانيا مدمّراً أجزاء من عاصمتها ومن مدنها وبنيتها التحتية ومطاراتها ومرافئها الواقعة على البحر الأسود وسكك حديدها ومصانعها.
عشيّة غزو أوكرانيا استعار بوتين مطوّلات فيدل كاسترو في خطاب استجار فيه بالتاريخ ناسباً إلى روسيا كلّ إيجابية مرّت على أوكرانيا، ومحمّلاً الأخيرة كلّ المصائب التي عانتها روسيا. فسّر التاريخ وفقاً لأهوائه ومصلحته كما فعلت اليابان سابقاً عندما استخدمت الماضي لتبرير غزوها كوريا. وعلى النهج عينه كانت النازيّة قد استثارت الشعور القومي باستعادتها ما لحق بألمانيا من إهانة في اتفاقية فرساي بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى لتغزو دول الجوار متسبّبةً بالحرب العالمية الثانية.
وقد عاد بوتين لتبرير ممارساته الحالية وسلوكه الراهن إلى حقب غابرة من التاريخ على طريقة صدام حسين عندما أثار شعار “إعادة الأصل إلى الفرع” لتبرير غزوه لدولة الكويت، أو البعث السوري عند طرحه “الكيان المصطنع” لاحتلال لبنان.
لا تكفي ذريعة بوتين حول الأقلّيّة القومية الروسية لتبرير غزواته الظالمَة للشعوب وتجاوزه الحدود الدولية والقانون الدولي وتهديد الأمن والاستقرار في أرجاء العالم.
إرث ستالين
علاوة على ذلك، لم تكن الأقلّيّات الروسية التي يتذرّع بوجودها، والمنتشرة في جمهوريّات الاتحاد السوفياتي السابق وفي دول المعسكر الاشتراكي، لتوجد هناك لولا سياسة ستالين .
طوال أكثر من مئة عام منذ تسلّم البلاشفة الحكم في روسيا (1917)، وزّع ستالين فخاخه وقنابله الموقوتة في أرجاء الاتحاد السوفياتي السابق وعلى دول المعسكر الاشتراكي. تفوّق ستالين في ترحيل الأعراق ونفيها في أرجاء الاتحاد السوفياتي، إذ عاش هاجس وجود معارضين يتربّصون بنظام البلاشفة، فانتهج سياسة الtransfer لقوميّات بكاملها بغية القضاء على أيّ معارضة قومية داخل هذه الدول، وطالت سياسته التهجيريّة كلّ الدول ضمن الاتحاد بما فيها وطنه الأصلي جورجيا .
يستغلّ بوتين ما زرعه ستالين في دول الجوار من أقلّيّات روسية تحوّلت إلى قنابل موقوتة. ويعتبر هذه الأقلّيات وشعوب هذه البلدان، وفي مقدَّمهم الشعب الأوكراني، رهائن لديه، فيستلّ خنجر ستالين ويغرزه في الجرح الدائم
هجّر الشيشان إلى سيبيريا وشبه جزيرة القرم، والجورجيّين إلى أرمينيا وأذربيجان، والأرمن إلى موسكو وبيلاروسيا، والطاجيك إلى أوزبكستان، والأوزبك إلى أذربيجان، والأوكرانيين إلى روسيا، والمولدافيين إلى أوكرانيا ورومانيا، وهكذا دواليك. ومَن خالف من هذه القوميات قرار ستالين بالـtransfer نكّل به وأعدمه ليكون عبرة لغيره. واستهدف الإثنيات في بولندا ورومانيا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا والفولغا والانغيريين والفلنديين (في كاريليا) وتتار القرم ويونانيّي القرم والقوقاز وأتراك قاراشاي والمسخيت والكارباباك وكوريّي الشرق الأقصى والإنغوشيين. وقد أثّر الترحيل القسري تأثيراً عميقاً على توزّع القوميات في الاتحاد السوفياتي وبلدان المعسكر الاشتراكي .
بموازاة الترحيل القسري عمد ستالين إلى إغراء الروس بالمناصب الرفيعة وبالعلاوات المادية لإحلالهم مكان مَن قام بتهجيرهم، متّبعاً سياسة إحلال حوالي أكثر من 35 في المئة من الروس في كلّ جمهورية أو مقاطعة تابعة للاتحاد مكان السكان الأصليين. لم تُستثنَ منطقة واحدة من الاتحاد من أن تتكوّن داخلها أقليّة روسية تشارك أهلها المناصب والسلطة والثروات الوطنية .
كان ستالين بطبعه، ولحاجة نظامه، متحجّر القلب يُصدر قراراته بإعدام الملايين أو تهجيرهم للشكّ والتخمين وحسب، أو لضرورات إخماد الشعور القومي وإجهاضه. هو الذي كان يوقّع قوائم التهجير والإعدام التي تضمّ عشرات الآلاف في ليلة واحدة، ثمّ يشاهد فيلم “الرجال السعداء”. جبروت ستالين الذي أورثه لبوتين يتّضح من ترداده الدائم لعبارة “موت رجلٍ حادثٌ مؤسف، إنّما موت الملايين فمسألة إحصائية”.
الاستيطان الروسي
سببان أساسيّان أثّرا في علاقات شعوب الاتحاد السوفياتي:
– الأوّل كان سياسة النفي وإحلال الروس مكان السكان الأصليين التي أصابت القوميّات المتعدّدة ودمّرت شعورها الوطني والقومي.
– أمّا الثاني فكان مصادرة الأراضي من الفلاحين وتأميمها لضمّها إلى التعاونيات الجماعية (الكولخوزات)، وقد شكّلت سبباً إضافياً لاستعداء الشعوب السوفياتية بعضها للبعض الآخر.
ستالين، وعلى منواله بوتين، هو ككلّ حاكم متسلّط على استعداد للتضحية بآلاف البشر من أجل تثبيت نظام حكمه. فبعد تسلّم ستالين السلطة انهارت الخزينة الروسية واحتاجت إلى الموارد على أنواعها، فأمر بالاستيلاء على كامل محصول الحبوب في أوكرانيا (حيث سهول القمح) ومصادرته وتصديره لمصلحة السلطة في موسكو. نتيجة لذلك وبسبب مصادرة أراضي الفلاحين وضمّها إلى “الكولخوزات” أُصيب الشعب الأوكراني بمجاعة مروّعة قضت على أكثر من 3 ملايين أوكراني بين 1931 و1932.
يحاول بوتين، على شاكلة ستالين، استعادة الأيقونة السوفياتية الممجِّدة لستالين ولعبادة الفرد. ولذلك وصف الرئيس الأميركي جو بايدن وجه نظيره الروسي بأنّه “يفتقر إلى الإنسانية وتعتليه ملامح الإجرام”. وقال رئيس لجنة المخابرات الأسبق في مجلس النواب الأميركي مايك رودجرز إنّ “بوتين يذهب إلى فراشه ليلاً وهو يحلم بالقيصر بطرس الأكبر، وينهض صباحاً مستذكراً ستالين”. انتقد رودجرز على حدٍّ سواء إدارة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وإدارة بايدن. فالأوّل تقاعس عن مواجهة احتلال شبه جزيرة القرم وعن مواجهة بوتين بصرامة، وما أشبه اليوم بالأمس، وما أشبه الرئيس الحالي ورئيسه الأسبق أوباما، في حين أنّ بوتين الأمس هو ذاته بوتين اليوم، وستالين الأمس هو بوتين اليوم.
إقرأ أيضاً: ما الذي يدور في رأس بوتين؟
يواصل بوتين نهج ستالين نظريّاً وعمليّاً في غزو واحتلال أوكرانيا، مردّداً عدّة مرّات أنّ “الشيطنة المفرطة من قبل أعداء روسيا لستالين تُستخدم لتقويض روسيا”، متصدّياً لأيّ توجّه يجرِّم قتل ستالين ملايين المواطنين، ومن بينهم الأوكرانيون، حاشداً الروس وراء مقولته الشخصية الخاصة “لا تعتذر أمّة قويّة عن ماضيها”.
يستغلّ بوتين ما زرعه ستالين في دول الجوار من أقلّيّات روسية تحوّلت إلى قنابل موقوتة. ويعتبر هذه الأقلّيات وشعوب هذه البلدان، وفي مقدَّمهم الشعب الأوكراني، رهائن لديه، فيستلّ خنجر ستالين ويغرزه في الجرح الدائم.
* كاتب لبناني مقيم في دبي