السؤال الذي تردّد ولا يزال يتردّد منذ أن أعلن الرئيس سعد الحريري، في 24 كانون الثاني الماضي، تعليق مشاركته وتيّاره “المستقبل” في الحياة السياسية، بما فيها الانتخابات النيابية المقبلة، هو: كيف سيملأ السُنّة الفراغ الناجم عن موقف الحريري؟
منذ ذلك التاريخ، تتراكم الأجوبة التي صارت تملأ مجلّدات. وهي إن نمّت عن شيء فأوّلاً وأخيراً عن حجم الطائفة السنّيّة، بدءاً من الديموغرافيا، إذ تقول آخر الإحصاءات إنّها الطائفة الأكثر عدداً في لبنان… وانتهاءً بالجغرافيا، التي تعني أنّها صلة الوصل ببحر عربي وإسلامي عميق الأغوار يقارب مليار نسمة، إن لم يكن أكثر.
لن يجد السنّة زعيماً يشبه رياض الصلح ورفيق الحريري، وبينهما صائب سلام. هذه شخصيات لن تتكرّر. عليهم أن يخترعوا قياداتٍ جديدة، تساعدهم على عبور البحر الهائج، في المنطقة وفي الداخل
على الرغم من هذا الوزن داخلياً وخارجياً، تجد على مستوى معظم قيادة هذه الطائفة حالة عدم توازن مثيرة للتساؤل. يخيّل للمراقبين للوهلة الأولى، بعدما قال الحريري كلمته ومشى، أنّ حبل الانسحاب من الحياة السياسية على الجرّار.
فمن أين أتت هذه الحالة يا تُرى؟
إنّها نتيجة فقدان البوصلة العربية في لبنان منذ أن قام الرئيس المصري الراحل أنور السادات بزيارته التاريخية للقدس عام 1978، وإبرامه لاحقاً اتفاقية كامب ديفيد مع مناحيم بيغن رئيس الوزراء الإسرائيلي وقتذاك. وحده في لبنان وقف الرئيس صائب سلام مؤيّداً الموقف المصري، ودفع ثمن هذا الموقف فكان الذهاب اختياريّاً إلى المنفى والإقصاء عن الحياة السياسية.
ليس قليلاً على الإطلاق أن تأخذ أكبر دولة عربية طريق السلام مع إسرائيل. فهي أحدثت زلزالاً لا مثيل له في التاريخ العربي في القرن العشرين. لكن بعد مضيّ نحو 44 عاماً على خطوة السادات، وهنا تكمن المفارقة، سار كثيرون على خطاه من المغرب العربي حتى مشرقه. لكنّ صاحب هذه الخطوة قضى اغتيالاً على يد التطرّف الإسلامويّ الذي حملت رايته ولا تزال تحملها الجمهورية الإسلامية التي أسّسها الإمام الخميني عام 1979.
يقول وزير سابق إنّه لو جرى اليوم إحصاء للدول التي طبّعت علاقتها مع إسرائيل، وتلك التي لم تطبّع، لتبيّن أنّ الأخيرة لا تتجاوز عدد أصابع اليد.
جمهورية الخميني
أغرب ما في الأمر أنّ لبنان، بكل طوائفه، وفي مقدَّمها الطائفة السنّيّة، ما زال تحت وطأة موقف جمهورية الخميني، في حين أنّ أهل القضية، قضية فلسطين، قدّموا لنا نموذجيْن: نموذج القائد التاريخي ياسر عرفات (أبو عمار) الذي اختار طريق أوسلو فعاد إلى فلسطين ودُفِن في ترابها، ونموذج حركة “حماس” التي تؤمن بأنّ طريق القدس تمرّ بطهران.
العروبة اليوم هي ظاهرياً نموذجان: نموذج مصر الدولة العربية الكبرى التي تقيم علاقات طبيعية كاملة مع إسرائيل. ونموذج المملكة العربية السعودية التي تقف متفهّمة لهذا الاتجاه العارم عربياً وإسلامياً نحو تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وها هو البرهان على ذلك يظهر في تفهّم المملكة للاتفاقات مع إسرائيل، سواء عند الأقربين، أي دولة الإمارات العربية المتحدة ودولة البحرين (من دون الكلام عن سلطنة عمان التي سبقت الكثيرين إلى التطبيع)، أو عند الأبعدين عربياً، ونعني السودان والمغرب.
يقول وزير سابق إنّه لو جرى اليوم إحصاء للدول التي طبّعت علاقتها مع إسرائيل، وتلك التي لم تطبّع، لتبيّن أنّ الأخيرة لا تتجاوز عدد أصابع اليد
أين صارت العروبة في لبنان اليوم؟
إنّها ليست وفق النموذج المصري، وليست وفق النموذج السعودي، ولا حتى وفق العروبة التي تمثّلها السلطة الفلسطينية التي مضت على خطى الزعيم التاريخي أبو عمار. باختصار، ليست في لبنان عروبة، بل هيمنة فارسية، لها ناطق باللغة العربية يُدعى “حزب الله”، الفصيل الأبرز في “فيلق القدس” التابع للحرس الثوري الإيراني.
حتى سوريا، التي يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي ممثَّلاً بوريث حافظ الأسد، تنفتح على عروض العروبة الجديدة بدءاً بمصر وانتهاءً بالإمارات، فيما لا تزال قدمها الأخرى في “بور” طهران.
إنّها مأساة لبنان اللاعربي الذي نشأ بمبادرة تاريخية من الزعيم الراحل رياض الصلح عام 1943، بالاشتراك مع الزعيم التاريخي الآخر بشارة الخوري، كي يكون لهذا البلد وجه عربي، قبل أن يصبح بلداً عربياً كامل الأوصاف في اتفاق الطائف عام 1989.
صار العنوان “قدر السُنّة القيادة والويل للبنان بلا قيادتهم؟”.
إنّه ببساطة يعيدنا إلى ولادة كيان الاستقلال الذي كانت قابلته قيادة سنّيّة تاريخية لاقتها قيادة مسيحية تاريخية، وسط ظروف مؤاتية بعد الحرب العالمية الثانية. ولولا هذه القيادة السنّيّة أوّلاً، لَما صار لبنان في الحضن العربي الكبير حتى حرب عام 1975. ثمّ عاد إلى هذا الحضن مجدّداً عام 1989 من خلال اتفاق الطائف الذي منحتنا من خلاله السعودية قيادة تاريخية تجسّدت برفيق الحريري.
ماذا بقيَ للبنان اليوم؟
الويل بل الويلات، بعدما صارت عروبته ترجمة فارسية هي الأردأ من نوعها في عالم الترجمة، وهو ما أوصله إلى الجحيم اليوم.
إقرأ أيضاً: الانتخابات تعصف بالعائلات البيروتية:عائلة سنّو بمواجهة حسن
لن يجد السنّة زعيماً يشبه رياض الصلح ورفيق الحريري، وبينهما صائب سلام. هذه شخصيات لن تتكرّر. عليهم أن يخترعوا قياداتٍ جديدة، تساعدهم على عبور البحر الهائج، في المنطقة وفي الداخل. وعليهم أن يتوقفوا عن النظر إلى الوراء.
الكثير الذي سيأتي الكلام عنه لاحقاً.