المساعدات الإنسانيّة في سوريا “ابتزاز سياسيّ”

مدة القراءة 9 د

مُنذ سنتين، يواصل النظام السوري سحب ملايين الدولارات من المساعدات الخارجية من خلال إجبار وكالات الأمم المتحدة على تحويل أموال المساعدات إلى الليرة السورية وبالسعر الرسمي الأدنى، وهو ما تسبّب في فقدان نصف أموال المساعدات الخارجية التي وصلت إلى العاصمة دمشق.

وتعتمد دمشق، التي تعاني ضائقةً ماليّةً، على أساليب غير تقليدية لجمع الأموال، التي يضمّها رئيس النظام السوري بشّار الأسد والمقرّبون منه إلى ثرواتهم الشخصية.

تُعتبر اليوم المساعدات الإنسانية واحدة من سبل كسب المال الوفير بالنسبة إلى بشار الأسد وحكومته، وذلك بحسب مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، الذي أشار إلى أنّ هذه المساعدات الإنسانية مكّنت النظام السوري من كسب ملايين الدولارات، وأنّ كلّ دولار مساعدة يُعطى لسوريا يجني منه النظام السوري عبر البنك المركزي ما يزيد قليلاً على نصف دولار، محقّقاً ما يقارب 60 مليون دولار أميركي العام الماضي على الرغم من فرض واشنطن عقوبات عليه.

بناءً عليه، بات نظام الأسد يرفد خزينته بالأموال والقَطْع الأجنبي، من أموال المساعدات الإنسانية في سوريا، ومن خلال الاستفادة من فروقات سعر الصرف، وهو ما جعل روسيا تتمسّك بحصر طرق إيصال المساعدات الإنسانية التي ترد عبر الحدود بمناطق سيطرته.

تعتمد دمشق، التي تعاني ضائقةً ماليّةً، على أساليب غير تقليدية لجمع الأموال، التي يضمّها رئيس النظام السوري بشّار الأسد والمقرّبون منه إلى ثرواتهم الشخصية

إشراك الأسد أو إغلاق باب الهوى

في تمّوز 2014، أقرّ مجلس الأمن بأنّ الحكومة السورية تحجب بشكل تعسّفيّ وغير مبرّر الموافقة على عمليّات الإغاثة، وبأنّها تعيق إيصال الإمدادات الإنسانية. وسمح المجلس لوكالات الأمم المتحدة بنقل الإمدادات من باب السلامة وباب الهوى (تركيا) واليعربية (العراق) والرمثا (الأردن)، إلى شمال غرب وشمال شرق وجنوب سوريا على التوالي.

وفقاً للقرار الأممي، يجب تجديد هذا التفويض كلّ عام، وهو أمر لطالما عارضه النظام السوري وحليفه الروسي، الذي يمتلك حقّ النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي.

مع ذلك، وبسبب استخدام روسيا حقّ النقض (الفيتو) ضدّ تجديد التفويض، قام مجلس الأمن رسميّاً في 10 كانون الثاني 2020 بإزالة ثلاثة المعابر الحدودية المصرّح باستخدامها، تاركاً خياراً وحيداً هو معبر باب الهوى الذي تنسّق الأمم المتحدة حركة المرور فيه لمنظمات الإغاثة في شمال غرب سوريا وبموافقة روسية مشروطة.

وقتذاك قبلت روسيا بتمديد آليّة المساعدات الإنسانية العابرة للحدود إلى سوريا عبر معبر باب الهوى مقابل إشراك النظام السوري في هذه المساعدات، التي ساهمت في دخول ملايين الدولارات إلى جعبة النظام السوري.

تثير هذه الأرقام مخاوف السكّان في شمال غرب سوريا من استمرار الضغط الروسيّ لإغلاق “باب الهوى” الحدودي مع تركيا أمام المساعدات الأممية، التي تُرسَل إلى محافظة إدلب، وحصر إدخال كامل المساعدات من دمشق.

مساعدات تحت ضغط الفيتو

يُوصف معبر باب الهوى بـ”شريان الحياة” الذي تتدفّق منه شاحنات الأمم المتحدة، إذ يعتمد معظم سكّان شمال غرب سوريا، البالغ عددهم أربعة ملايين نسمة، من بينهم ما لا يقلّ عن 2.6 مليون نازح، على هذه المساعدات.

من بين هؤلاء المستفيدين النازحة السورية مريم الرحمون المقيمة في مخيّم أطمة على الشريط الحدودي مع تركيا شماليّ البلاد، حالها كحال مئات الآلاف من الأسر السورية التي شُرِّدت بسبب الحرب.

تشعر ابنة الثلاثين عاماً بقلق على كيفيّة تدبّر قوت يومها، بعد تهديد روسيا بمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري.

حتّى نهاية آذار الماضي، اعتمد 75% من هؤلاء الملايين الأربعة على هذه المساعدات، 85% منهم تصلهم على متن ألف شاحنة تعبر الحدود كلّ شهر من تركيا، وفقاً للأمم المتحدة. وتُظهر وثيقة أمميّة أنّ هذا يشمل المساعدات الأساسية، مثل الغذاء والإمدادات الطبّية وموادّ الإيواء، التي توزّعها الأمم المتحدة ووكالات غير تابعة لها في جميع أنحاء المنطقة.

لهذا ساور مريم أخيراً الكثير من القلق على مصير عائلتها. وهي مثل الملايين غيرها، تتخوّف من وقوع كارثة إنسانية في حال انتهاء تفويض الأمم المتحدة إيصال المساعدات الإنسانية إلى السوريّين عبر الحدود من معبر باب الهوى، وحصر المساعدات عبر العاصمة دمشق بضغط روسي.

في حديث هاتفي لـ”أساس”، تروي مريم أنّها تربّي ستّة أطفال، بعدما فقدت زوجها في بداية الثورة: “نحن نعيش هنا بفضل الله وسلّة المساعدات التي تصلنا عبر القوافل، وإذا فقدنا هذه السلّة فأنا وأطفالي سيصبح وضعنا صعباً جدّاً. شيء مؤلم ما نعيشه اليوم، فبعدما تمّ تهجيرنا وبتنا نسكن في الخيام، يريدون الآن حرماننا من الغذاء. لقد تعبنا من الهموم التي تأتينا من كلّ حدب وصوب”.

أمّا مدير “فريق منسّقي استجابة سوريا” محمد حلاج فيقول لـ”أساس” إنّ هؤلاء “لا يملكون أيّ صوت، ومعاناتهم غائبة عن انتباه المجتمع الدولي”، ويحذّر: “إذا توقّفت المساعدات، فإنّهم سيموتون إمّا بسبب الجوع أو المرض”.

ابتزاز سياسيّ؟

خلال جلسة تتعلّق بتطوّرات الوضع السوري، عُقِدت في كانون الأول 2021، جدّد أعضاء الأمم المتحدة دعمهم لمواصلة المساعدات عبر معبر باب الهوى الحدوديّ، بعدما عملت روسيا خلال السنوات الماضية على إغلاق المعابر الثلاثة الأخرى باستخدام الفيتو. وقد شدّدت روسيا والصين على رفض تمديد قرار المساعدات، وهدّدت روسيا باستخدام “الفيتو” مجدّداً خلال اجتماع مجلس الأمن لبحث الوضعين السياسي والإنساني في سوريا.

اشترطت روسيا أن يتمّ إيصال المساعدات الإنسانية عبر الخطوط الداخلية مقابل السماح بتمديد آليّة إدخال المساعدات لمدّة عام. ويعني الوصول “عبر الخطوط” أن تدخل المساعدات من داخل سوريا إلى النظام السوري في العاصمة دمشق (إلى جانب باب الهوى عبر الحدود)، وهو ما كانت تطالب به روسيا من البداية.

 

حديث الصورة: شاحنات المعونات الإنسانيّة التابعة للأمم المتّحدة تدخل شمال غرب سوريا عبر معبر باب الهوى الحدوديّ مع تركيا.

بناءً على هذا الاشتراط، أعلن برنامج الغذاء العالمي تسيير قافلة مساعدات إنسانية تابعة للأمم المتحدة من حلب إلى المستودع المتعاقد مع البرنامج شمالي إدلب.

لكنّ للنظام السوري تاريخاً طويلاً في عرقلة ما يُعرَف بالمساعدات “العابرة لخطوط النزاع”، وهي الإمدادات التي تعبر من الأجزاء التي تسيطر عليها الحكومة في البلاد إلى الأجزاء غير الخاضعة لسيطرتها في الشمال الغربي والشمال الشرقي. ويمنح النظام السوري هذه المساعدات لمسلّحيه والميليشيات الإيرانية المقاتلة معه كمعونات لهم وحوافز.

يُلفت الباحث في “مركز جسور للدراسات”، وائل علوان، إلى أنّ روسيا تتوقّع الحصول على مكاسب لضمان عدم اعتراضها على تمديد القرار، من قَبِيل تخفيف الولايات المتحدة القيود الاقتصادية على النظام السوري، وإعادة تسويق النظام السوري، أو على أقلّ تقدير تفعيل قائمة الاستثناءات من عقوبات قانون “قيصر”، ولا سيّما تلك التي تتعلّق بضخّ الغاز العربي وإيصال الكهرباء إلى لبنان عَبْر سوريا.

ورقة رابحةبيد الروس

على الرغم من أنّ سوريا ملزمة بالسماح بمرور سريع ومن دون عوائق للمساعدات الإنسانية للمدنيّين المحتاجين، ومجبرة على تسهيل إيصالها إلى المستفيدين منها، ولا يجوز لها حجب الموافقة على عمليات الإغاثة لأسباب تعسّفيّة بموجب قوانين الحرب، إلا أنّ المعابر بالنسبة إلى روسيا باتت ورقة رابحة للحصول على مكاسب سياسية واقتصادية لها وللنظام السوري في البلاد التي مزّقتها الحرب.

يقول خبراء إنّ الإصرار الروسيّ على مسألة إشراك النظام السوري في المساعدات من خلال معابره، يُشكّل فرصة لإعادة تعويم النظام إقليميّاً ودوليّاً وصولًا إلى مسألة إعادة الإعمار التي تعرقلها أميركا وتقف عثرة في طريقها بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي.

منذ أسبوع أعلن مجلس الأمن الدولي انتهاء الفترة الأولى من قرار تمديد آليّة إيصال المساعدات الإنسانية، وأعلن التمديد تلقائيّاً مدّة 6 أشهر من دون تصويت. وبذلك يستمرّ تدفُّق المساعدات من “باب الهوى” حتى 10 تموز المقبل، إلى حين التصويت مجدّداً، حيث يُتوقّع أن تستخدم روسيا ورقة المعابر لتحقيق مصالح لحليفها السوري بشار الأسد.

 

حديث الصورة: شاحنة تحمل مساعدات إنسانية مقدَّمة من برنامج الغذاء العالمي إلى الشمال السوري، في كانون الأول 2021 (عزّ الدين القاسم/تويتر)

مقايضات غير معلَنة

يعتبر الباحث في “معهد الشرق الأوسط”، تشارلز ليستر، أنّ ثلاثة مصادر دبلوماسية أخبرته بشكل موثوق أنّ روسيا حاولت إفشال قرار التمديد السابق، إلا أنّ إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، أعطت تسهيلات للمنظمات غير الحكومية الدولية للعمل مع النظام السوري. ويتابع أنّ المقايضة هي منح المنظمات الدولية غير الحكومية صلاحيّات العمل مع النظام.

كما تساند منظمات غير حكومية نظام بشار الأسد، أبرزها “الأمانة السورية للتنمية”، المرتبطة بزوجته أسماء. وهي تُعتبر من مؤسّسات الفساد في البلاد، بحسب مراقبين، وتعمل على خدمة النظام السوري سياسياً واقتصادياً، وتحظى بتشبيك واسع مع منظّمات محليّة، وتشرف على مشاريع تتعلّق بالمساعدات الأمميّة.

 

حديث الصورة: سوريّون في مخيّمات النازحين بانتظار تلقّي المساعدات الغذائية (ناشطون).

يُذكر أنّ وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقّتة، عبد الحكيم المصري، قال إنّ إيقاف المساعدات عبر الحدود وتسليمها للنظام السوري سيشكّلان قوّة اقتصادية وعسكرية للنظام السوري تساعده في استئناف المعارك واستعادة السيطرة على الأراضي غير الخاضعة لسيطرته، وهذا ما تعيره روسيا أهميّة كبيرة وترى فيه مصلحةً لها.

في حين يطالب سكّان الشمال السوري الأطراف المانحة بضرورة الضغط على مجلس الأمن لتجديد التفويض إلى الوكالات الأمميّة استخدام معبر “باب الهوى” الحدوديّ، وهو ما يضمن استمرار وصول المساعدات المنقِذة للحياة عبر الحدود إلى ملايين السوريين.

إقرأ أيضاً: سوريا عاصمة الكبتاغون (3): 16 مليار $ سنويا

مواضيع ذات صلة

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…