كلّنا عبد الله الساعي: أبطال وحرامية

مدة القراءة 5 د

في لبنان يختلط البطل بالحرامي في كلّ مكان. مِن قاتِل الرئيس رفيق الحريري، إلى آخر سارق رغيف خبز في آخر قرية لبنانيّة نائية. يختلط البطل بالحرامي في الأدب العالميّ كلّه، من الروايات إلى الشعر إلى السينما والمسرح. من جان فالجان إلى عبد الله الساعي. حتّى الأوبئة، منهم مَن رأى في كورونا “عقاباً للبشر بسبب شرورهم”، ومنهم مَن رآها فرصةً للالتفات إلى الاستثمار في العلم والطبّ بدل الأسلحة.

في لبنان يسري هذا الاختلاط على السياسة. فالزعيم يسرق “عالسكّين يا بطّيخ”. ولأنّ الزعماء الآخرين يسرقون، فهو بطل الطائفة في سباق السرقات. هو البطل والحرامي. هو المجرم في الحرب، قبالة جرائم الآخرين، والحنون الذي يقبّل الأطفال في مهرجانات السلم.

عبد الله نام في السجن. وزوجة عبد الله طريدة. وكلّ لبناني ومودع يشبه عبد الله وزوجته

لن يخرج عبد الله الساعي عن هذا الاختلاط. فهو بطل وحرامي في آنٍ واحدٍ. بطل لأنّ كلّ المودعين في لبنان رأوا فيه تجسيداً لرغبتهم المشتركة في اقتحام المصرف، وإخراج أموالهم منه، بالدولار “الفريش”، كما لو أنّه حقّق حلماً لبنانيّاً جماعيّاً عمره عامان.

راح اللبنانيون يتابعون خبر اقتحامه المصرف كما لو كانوا يتابعون سلسلة أفلام “Ocean” عن عمليات السرقة المعقّدة والذكيّة، أو مسلسل “la casa de papel”، الذي شاهده مئات الملايين، ووقفوا إلى جانب عصابة سرقة المصرف ضدّ الشرطة.

عبد الله الساعي هو التكثيف العميق لهذا الاختلاط، من الأدب إلى السينما، إلى السياسة اللبنانية، وصولاً إلى المودعين الخائفين وهم يرون جنى أعمارهم يتبخّر أمامهم على سعر 3900 وعلى سعر 8000 ليرة للدولار، فيما الدولار يشترونه خارج المصرف، ويشترون طعامهم وشرابهم على دولار 30 و25 ألف ليرة.

وقف عبد الله الساعي، الرجل الأربعينيّ، الشجاع، المقدام، في هذه النقطة المعقّدة، وقرّر أن يهدّد موظّفي المصرف بأن يحرقهم. كان سلاحه الحقّ، ثمّ شجاعته، وأخيراً عبوتيْ بنزين. ويا لسخرية القدر. هو البنزين الذي سرق كبار المحظيّين نحو 6 مليارات من الدولارات من أموال المودعين، بينها أموال عبد الله، بتهريبه إلى سوريا أو بتخزينه بين الدعم ورفع الدعم، تحت أنظار القوى الأمنيّة والقضاء، الذي كان يحاصر عبد الله ويستعدّ للانقضاض عليه.

بالبنزين وحدهُ أجبر عبد الله الموظّفين على أن يعطوه الـ50 ألف دولار، التي هي جنى عمره. فأعطاها لزوجته، واطمأنّ على أنّها غادرت، ثمّ سلّم نفسه للقوى الأمنيّة.

 

الكوميديا السوداء

“أخذ وديعته من المصرف، وسلّم نفسه للقوى الأمنيّة”.

قسماً بالله إنّني حين كتبتُ هذه الجملة، غرقتُ في لحظات ضحك طويلة وعارمة. أقرأها مجدّداً ثمّ أضحك وأضحك وأضحك: “أخذ وديعته من المصرف، وسلّم نفسه للقوى الأمنيّة”.

عبد الله الساعي بطل وحرامي في آنٍ واحدٍ. بطل لأنّ كلّ المودعين في لبنان رأوا فيه تجسيداً لرغبتهم المشتركة في اقتحام المصرف، وإخراج أموالهم منه، بالدولار “الفريش”

هي جملة تقع بين الجدّ والمزاح. فلماذا يسلّم نفسه للقوى الأمنيّة مَن أخذ وديعتـ”ـهُ”. أخذ ماله، ولهذا هو مضطرّ إلى الذهاب إلى السجن. وهو خبر حقيقي تناقله اللبنانيون وانقسموا بين مَن حيّا الرجل الذي استعاد وديعته، وبين مَن اعتبر أنّه ارتكب جرماً بتهديد موظّفي المصرف كي يعيدوا له أمواله.

وذهب حريصون إلى أنّ الثناء على “جريمة” عبد الله، سيفتح الباب أمام كلّ المودعين لتحويل المصارف إلى مسارح للجرائم الجماعية. قد يحترق الموظفون ويموت المودعون. صحيح. بل وإنّ الزميل عبادة اللدن كتب أنّ عبد الله أخذ أموالاً يُفترض أن تقسَّم على كلّ المودعين، وليس أن يأخذها مَن يحمل سلاحاً دون غيره من المظلومين. وهذا صحيح أيضاً.

يمكن القول هنا: كما سرقت المصارف ومصرف لبنان والدولة اللبنانية أموال كلّ اللبنانيين و/أو المودعين، سواسيّة… مثلهم فعل عبد الله. لكنّه يملك الحقّ في هذه “الجريمة” قبل غيره. فالوزارات والوزراء والمتعهّدون والسياسيون والإعلاميون… الذين تناتشوا الودائع بالحلال والحرام، لا يملكون الحقّ الذي يحمله ويملكه عبد الله، بيمينه التي كاد يحرق بها المصرف، حين استعاد أموالـ”ـهُ” الخاصّة.

 

الزوجة الطريدة

الطريف أنّ القضاء اللبناني، المرتهن جزءٌ من قضاته للمصارف وعصاباتها، أمَرَ فوراً باستعادة وديعة الـ50 ألف دولار من زوجة عبد الله. وهي، بحسن الحظّ وبترتيب من قوى الحقّ والقدر، “توارت عن الأنظار”. جملة لم أظنّ أنّني سأُطرَبُ لسماعها، ولو مرّةً في حياتي: “توارَت عن الأنظار”. وأنا أقرأها خطرت لي أغنية مرسيل خليفة عن “الهويّة” واستبدلتها بـ”الوديعة”، إذ يقول: “وقّفوني عالحدود قال بدُّن هويّتي، قلتلهم إنّها بيافا مخبّايتها ستّي”. وردّدت معه متوجّهاً إلى زوجة عبد الله بدل “سّتي”: “إنتِ يا مخبّاية مدري بأيّا بيت، وديعتكِ ضبّيها، خبّيها بشي حَيْط. بدهم يسرقوها، ومن الدنيا يخفوها، ويا غيمات بلادي، عليهم ما تشتّي”.

إقرأ أيضاً: من يجرؤ على أن يكون “الساعي” التالي؟

عبد الله نام في السجن. وزوجة عبد الله طريدة. وكلّ لبناني ومودع يشبه عبد الله وزوجته.

كلّنا سجناء. وكلّنا “مطاريد”.

كلّنا أبطال، وكلّنا حرامية. وحدَهُ عبد الله جمع المجد من طرفيه، وقرّر أن يفشّ خلقنا.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…