لم ينتظر المواطن عبدالله الساعي قانون الـ”كابيتال كونترول”، ولا خطة حكومة “معاً للإنقاذ” من أجل التعافي، ولا هِمّة أو “جَلَد” مصرف لبنان على هيكلة القطاع المصرفي. حمل “غالون” البنزين وقصد فرع المصرف الذي وضع فيه أمواله، في جب جنين، ثمّ كان له ما أراد: 50 ألف دولار “فريش”… فشرّع بذلك الباب أمام أيّ مودع لديه الجرأة على أن يستعمل السلاح، حتّى يحصل على أمواله المحتجزة في المصارف بالطريقة نفسها.
أمس، تحوّل الساعي إلى “بطل” على مواقع التواصل الإجتماعي، بعد أن أُعلن عن تنفيذه إضراباً مفتوحاً عن الطعام في سجنه، وذلك على طريقة الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية، حاصداً الاعجابات و”اللايكات” على ما أقدم عليه قبل يومين، حين احتجز موظفي المصرف ليحرّر “وديعته – الرهينة”، التي سلّمها لزوجته ثمّ سلّم نفسه للقوى الأمينة.
جميعة المودعين اللبنانيين أعلنته على حسابها في تويتر “بطلاً”، يخوض “معركة الأمعاء الخاوية دفاعًا عن جميع اللبنانيين
جميعة المودعين اللبنانيين أعلنته على حسابها في تويتر “بطلاً”، يخوض “معركة الأمعاء الخاوية دفاعًا عن جميع اللبنانيين”، مستنجدة بـ”منظمة العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” من خلال دعوتهما إلى التضامن مع الساعي ومناصرتها في “معتقله”، كاشفة عن لجوء عائلة الساعي إلى مقرّ الجمعية، مهددة بأنّ أيّ محاولة لـ”سرقة” مبلغ الـ50 ألف دولار من العائلة “ستواجه بالقوّة… شاء من شاء وأبى من أبى”.
يخوض عبدالله معركة الأمعاء الخاوية دفاعًا عن جميع اللبنانيين pic.twitter.com/WVf5koHWzG
— جمعية المودعين اللبنانيين (@Lebdepositors) January 19, 2022
صباح أمس كانت الجمعية قد رفضت “الاعتداءات المتكرّرة” على فروع المصارف، معتبرة أنّها “تهدّدٌ لحياة الموظفين”، مبدية إدانتها لـ”أعمال العنف بكافة أشكالها وتحت أي ظرف”، ومعتبرة أنّ محاولة القتل أو التهديد بحرق الموظفين وهم أحياء “لا يمكن تبريرها أو قبولها مهما كانت الأسباب”.
وعن الودائع، قالت الجمعية إنّها “لا تُسترجع بواسطة التحريض على أفعال جرمية”، وأنّها منذ اليوم الأول من الأزمة “تطالب الحكومة التي توقفت عن دفع مستحقاتها ورمت البلد في تعثر وإفلاس، بحماية أموال المودعين والحدّ من أزمة السيولة وإتاحة المزيد من النقد لتلبية طلباتهم”، خاتمة بيانها بالقول إنّ استرجاع الودائع “يمرّ بطريق واحد هو خطة تعافٍ شاملة تنهض بالبلد”. غاب عن بيان “الجمعية المقدّسة” أنّ عبدالله وغيره من المودعين لم يضعوا أموالهم في البنك المركزي زلا في وزارة المالية، بل وضعوها في المصرف الذي لا يستشيرهم أصلاً في طرق استثماره لحنى العمر.
أما بنك بيروت والبلاد العربية BBAC، الذي وقع الإشكال في أحد فروعه بالبقاع، فأكد أنّ استرجاع الودائع “لا يحصل من خلال التهديد”، بل عبر خطة تعافٍ شاملة للاقتصاد اللبناني”، كما شكر القوى الأمنية على جهودها في التصدي لهذه الحادثة ومنع تفاقمها، مبدياً أسفه لما يتم تداوله على المواقع الاخبارية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي من أخبار “تشيد وتشجّع على تكرار حوادث مشابهة”، معلناً إقفال فرعه في جب جنين حتى إشعارًا آخر.
يكتفي الدكتور نسيب غبريل بتبنّي بيان جمعية المصارف، وبيان بنك بيروت والبلاد العربية الذي وقعت الحادثة في أحد فروعه
ما رأي القانونيين؟
يقول المحامي مصعب رعد في اتصال مع “أساس” إنّ مسألة استيفاء الحقّ بالذات “يمنعه القانون وفق منطوق المادة 429 من قانون العقوبات”، لكنّ السؤال: “هل فرضيات المادة تنطبق على واقعة المواطن عبدالله الساعي؟”.
يجيب رعد بالتالي: “من شروط تحقّق جرم استيفاء الحقّ بالذات، أن يكون الشخص قادراً على مراجعة السلطة ذات الصلاحية. وبما أنّ السلطة ذات الصلاحية غير قادرة على تحصيل الحقّ لصاحبه، فهذا يعني أنّ الوصف لا ينطبق على الواقعة. وبالتالي لا يُجرّم الساعي بهذا الوصف”.
ثم يخلص رعد إلى القول إنّ رأس حكم هذه القضية قد يقتصر على غرامة مالية أو ثلاثة أشهر كحد أدني أو سنتين كحد اقصى، في حال استخدم الساعي العنف أو السلاح”. وعليه، بما أنّ “السلطة المختصة غير قادة على تحصيل الحق، فإنّ الواقعة باتت مباحة”.
ما رأي المصرفيين؟
يكتفي الدكتور نسيب غبريل بتبنّي بيان جمعية المصارف، وبيان بنك بيروت والبلاد العربية الذي وقعت الحادثة في أحد فروعه.
أما خبير المخاطر المصرفية الدكتور محمد فحيلي، فيقول لـ”أساس” إنّ “الغاية لا تبرر الوسيلة”، بغض النظر عمّا له المواطن من حقوق في المصرف. ويرى أنّ ما قام به الساعي هو “اعتداء على أملاك خاصة، وخَلَق الرعب في نفوس مواطنين آمنين لا ناقة لهم ولا جمل في الحادثة”.
يعتبر فحيلي أن الساعي حصل على أمواله، صحيح. لكنّه حصل عليها بطريقة توصف بـ”الجريمة”. برأيه أنّ “أموال المودعين محجوز عليها، لكنّها ليست مسروقة، وبالتالي فإنّ الافراج عنها رهن خطة الانقاذ التي تعدنا بها “السطلة” السياسية منذ زمن وتشتغل في إقرارها وفي تنفيذها، وبالتالي تتحمّل السلطة مسؤولية ذلك للمواطن اللبناني، إن كان مودعاً أو موظفاً في المصرف… بينما المصرفيين الكبار المحسوبين على الطبقة السياسية هم في بروجهم المشيّدة أقصى ما يفعلوه قد يكون اتخاذ قرار بإقفال فرع المصرف”. وهنا يسأل فحيلي: “ماذا يعني إقفال الفرع أمام بقية المواطنين مقارنة مع انتصار الساعي أو من يشبهه؟ وما مصير الموظفين الذي قد يفقدون عملهم نتيجة قرار كهذا؟”.
يذهب فحيلي أبعد من الحادثة للقول: “إلى حين اقرار خطة التعافي، فإنّ تعاميم مصرف لبنان هي اليوم من يحدّد قواعد الاشتباك بين المودع وبين المصرف، ولسوء الحظ فإنّ المصرف المركزي بات جزءاً من الطبقة السياسية الفاسدة، سواء بتمويل الدعم على بعض السلع سابقاً، أو بالتغطية عن إخفاقات السلطة أو في تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء… ومصرف لبنان ما عاد يُقرّ سياسات نقدية، وإنما يدعم طبقة سياسية. فالهدف ليس خفض سعر الصرف وإنما استقراره، والهدف ليس حماية فروع المصارف من الاعتداءات وإنّما عودة الأمان إلى القطاع المصرفي”.
هل يسود منطق القوة؟
الساعي صاحب حقّ طبعاً، لكنّه ارتكب “جنحة” كان يمكن لها أن تتحول “بلحظة تخلٍّ” إلى “جناية” فيما لو قرّر أحد الموظفين في المصرف مواجهته أو مقاومته… وهناك كانت ستقع الطامة الكبرى. ولو كان الساعي سارقاً، لعاقبه القانون على تهديده الموظفين أولاً، ثم على أخذه مالاً ليس له ثانياً. أمّا والمال ماله فهذا لا يعني أنّه لم يرتكب الفعل الثاني، لكنّه حتماً ارتكب الفعل الأول ولن تسقط عنه تهمة استخدام العنف.
إقرأ أيضاً: كلّنا عبد الله الساعي: أبطال وحرامية
كل مودعٍ منّا عليه أن يسأل نفسه: هل أنا مستعدّ لأن أدخل السجن، ولو لأيام، من أجل استعادة قليل من الدولارات؟
على كل واحد منّا أن يجيب نفسه بنفسه.