ليس الحكم بالسجن المؤبّد، الذي صدر عن محكمة ألمانيّة على ضابط سوري يدعى أنور رسلان دين في قضية تعذيب سجناء رأي والتسبّب بقتلهم، سوى دليل على أنّ العدالة الدوليّة ستلاحق النظام السوري وأركانه مهما طال الزمن. لا يمكن لجريمة تتمثّل في قتل نصف مليون سوري وتهجير الملايين من أبناء الشعب، فضلاً عن تهديم مدن وبلدات على رؤوس أهلها، أن تمرّ مرور الكرام. سيأتي يوم يُحاسب فيه أركان النظام، الذي أسّسه حافظ الأسد في العام 1970، على جرائمهم في حقّ سوريا والسوريّين.
جاء الحكم الألماني، وهو أكثر من حكم قضائي، في وقت يتأكّد أن لا تراجع أميركيّاً عن الدفع في اتّجاه مزيد من الضغط على النظام السوري. من المفيد الإشارة إلى التعليق الذي صدر عن السفارة الأميركيّة في دمشق إثر صدور الحكم الألماني. جاء في التعليق: “نرحّب بهذا الحكم كخطوة إيجابيّة في التحقيق مع المسؤولين عن الفظائع في سوريا ومقاضاتهم. إنّ المساءلة جزء لا يتجزّأ من حلّ دائم للصراع. نقف إلى جانب الضحايا والناجين وعائلاتهم في السعي إلى تحقيق العدالة”.
ليس بعيداً ذلك اليوم الذي سيجد فيه النظام السوري نفسه في وضع لا يُحسد عليه نتيجة لعبه ورقة إيران ضدّ روسيا وورقة روسيا ضدّ إيران
تكمن مشكلة النظام السوري، بل أزمته العميقة، في أنّه لا يستطيع إعادة تأهيل نفسه. لذلك هو مضطرّ دائماً إلى الهروب في اتّجاه مزيد من الفظاعات تُرتكب في حقّ السوريين وفي حقّ سوريا. استطاع النظام، الذي كان وراء مجزرة حماة في مثل هذه الأيّام من العام 1982، تغيير طبيعة تركيبة المدن السوريّة التي كانت أساساً سنّيّة بأكثريتها مع وجود مسيحي قويّ. فعل ذلك في ظلّ الحقد الأعمى الذي كان حافظ الأسد يكنّه لأهل هذه المدن، مثل دمشق وحمص وحماة وحلب واللاذقيّة، وهي مدن أصرّ بشّار الأسد على التعاطي معها من منطلق أنّها مدن أُمكن تدجينها.
الأكيد أنّ سوريا التي عرفناها لم تعد موجودة. ما هو موجود إصرار لدى النظام القائم على متابعة حربه على الشعب السوري من منطلق أنّ الحلف القائم بينه وبين “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانية هو الحلف الذي سينتصر. يراهن النظام على أنّ إيران ستتوصّل إلى اتفاق مع الإدارة الأميركية في شأن ملفّها النووي، وستتمكّن من رفع العقوبات الأميركية عنها. يظنّ النظام أنّ الأموال الإيرانيّة ستتدفّق قريباً على سوريا. لا يدري أنّ “الجمهوريّة الإسلاميّة”، حتّى لو استطاعت فرض شروطها على أميركا، ليست جمعيّة خيريّة، وأنّ ثمناً تريد قبضه في مقابل توظيفها مليارات الدولارات من أجل حماية النظام الأقلّوي الذي يقف على رأسه بشّار الأسد.
أكثر من ذلك، ليس بعيداً ذلك اليوم الذي سيجد فيه النظام السوري نفسه في وضع لا يُحسد عليه نتيجة لعبه ورقة إيران ضدّ روسيا وورقة روسيا ضدّ إيران. سيكون عليه أن يختار بين مراعاة الحلف الروسي – الإسرائيلي أو السير في المشروع الإيراني الهادف إلى تكريس وجود عسكري لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” وميليشياتها المختلفة، من بينها “حزب الله”، في الجنوب السوري.
تكمن مشكلة النظام السوري، بل أزمته العميقة، في أنّه لا يستطيع إعادة تأهيل نفسه. لذلك هو مضطرّ دائماً إلى الهروب في اتّجاه مزيد من الفظاعات تُرتكب في حقّ السوريين وفي حقّ سوريا
في هذا السياق، سياق الحماية التي يوفّرها الإيرانيون والروس للنظام السوري، كي يبقى بشّار الأسد في دمشق، يطرح سؤال نفسه بحدّة: هل يمكن لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” قبول أيّ صيغة لا تكون فيها سوريا ورقة في يدها؟ الجواب أنّ ذلك غير ممكن. وممّا يزيد الوضع السوري تعقيداً أنّ روسيا في حاجة دائمة إلى استرضاء إسرائيل بغضّ النظر عن اسم رئيس الوزراء في الدولة العبريّة، سواء أكان بنيامين نتانياهو أو نفتالي بينيت المتوقّع أن يخلفه يائير لابيد وزير الخارجية في ظلّ الاتفاق الذي تشكّلت بموجبه الحكومة الإسرائيليّة الحاليّة. سيكون على روسيا في نهاية المطاف التوفيق بين إسرائيل وإيران في سوريا. هل هذا ممكن؟ قد يكون ذلك ممكناً في حالة واحدة. تتمثّل هذه الحالة في تفاهم أميركي – إيراني على انسحاب تدريجيّ لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” من سوريا. مثل هذا الاتفاق سيعني، بين ما سيعنيه، موافقة إيران على ألّا يقتصر أيّ اتفاق في شأن ملفّها النووي على هذا الملفّ، بل أن يتناول أيضاً سلوكها خارج حدودها، خصوصاً في سوريا. من الواضح أنّ إيران غير مستعدّة لذلك، أقلّه في المدى المنظور. بكلام أوضح، تبدو مصرّة على الاحتفاظ بورقتها السورية، خصوصاً أنّ الأراضي السورية ممرّ إلى “حزب الله” في لبنان.
في ظلّ تعقيدات الوضع السوري، يبدو أنّ إدارة بايدن اختارت متابعة ضغوطها على النظام. قد تكون سوريا المكان الوحيد الذي تبدو فيه الولايات المتحدة مرتاحة إلى حدٍّ ما. أكثر من ذلك، تبدو سوريا المكان الوحيد الذي تستطيع إدارة بايدن القول إنّها صادقة مع نفسها، وإنّها بالفعل مع حقوق الإنسان، وإنّه لا مجال للتهاون مع نظام أخذ على عاتقه قتل شعبه بكلّ الوسائل المتاحة، بدءاً بالتعذيب وصولاً إلى البراميل المتفجّرة، مروراً بالسلاح الكيميائي.
يخطئ النظام السوري إذا استخفّ بالحكم الصادر عن المحكمة الألمانيّة. إنّه أكثر من حكم. إنّه دليل على أنّ أوروبا معنيّة بما يجري في سوريا، وهي لم تتخلَّ عن الشعب السوري كلّيّاً بعد. الأهمّ من ذلك كلّه أنّه بدأت تظهر داخل الكونغرس الأميركي قوى تضمّ جمهوريين وديموقراطيين غير مستعدّة لتمرير أيّ تراجع في مجال التعاطي مع النظام السوري. تصرّ هذه القوى على محاسبة النظام وعلى تشديد العقوبات عليه.
إقرأ أيضاً: سوريا عاصمة الكبتاغون (3): 16 مليار $ سنويا
بعد أيّام قليلة، في شباط المقبل، ستمرّ الذكرى الـ40 على مجزرة حماة. كانت تلك المجزرة منعطفاً سوريّاً. ثبّت حافظ الأسد نظامه بالحديد والنار. أخمد الانتفاضة الشعبيّة في حلب، وأرهب أهل دمشق. أرهب الأطبّاء والمهندسين والمحامين والتجّار وكلّ مَن كان يفكّر في مستقبل أفضل لسوريا بعيداً عن حكم الأجهزة الأمنيّة والقمعيّة.
بعد أربعين عاماً، لم ينسَ السوريون حماة. لن ينسوا طبعاً مَن قتل وشرّد وعذّب كلّ مَن قال لا لنظام جائر لا يمتلك أيّ شرعيّة من أيّ نوع. هذا ما يعرفه العالم المتحضّر. لعلّ أكثر ما يعرفه هذا العالم أنّ النظام لا يستطيع الخروج من حماية إيران. لم تكن محاكمة الضابط السوري في ألمانيا سوى بداية في طريق طويل ليس معروفاً أين ستكون سوريا في نهايته… هل يمكن أن تبقى ورقة إيرانيّة أم لا؟