جابر عصفور: ثقافة طه حسين وعالم مصر وهموم التحرّر والنهوض

2022-01-03

جابر عصفور: ثقافة طه حسين وعالم مصر وهموم التحرّر والنهوض

تُوفّي يوم 31 كانون الأول 2021 الأستاذ الكبير والصديق العزيز الدكتور جابر عصفور. وبيني وبينه صداقة ثلاثين عاماً ونيّف. وقد حاولتُ إيجاز مجالات اهتمامه الثلاثة في عنوان هذه المقالة. فقد تعرّفتُ على كتبه قبل أن أُقابله أواخر الثمانينيّات من القرن الماضي. وكتبه الأُولى التي أُشير إليها ناجمة عن انتمائه للجيل الثالث والأخير من تلامذة طه حسين شبه المباشرين. فقد كتب الأستاذ جابر أطروحته للماجستير عن التراث النقدي العربي (بإشراف سهير القلماوي تلميذة طه حسين)، وتابع اهتماماته بنقد الشعر القديم. وعندما قابلتُهُ قلتُ له مازحاً: لكنّك لم تذكر إحسان عباس ولا مرّة! فقال: “هو من الجيل الثاني من تلامذة طه حسين، لكنّه مال أكثر إلى نهج تلميذ العميد المحافظ شوقي ضيف الذي يهتمّ بالاستقصاء والتصنيف أكثر ممّا يهتمّ بإعادة القراءة وتجديدها، إنّما لا أحد منّا نحن دارسي النقد الأدبي في مصر لم يتأثّر بإحسان عباس، وليس بكتابه في نقد الشعر فقط، بل وبدراساته في نقد الشعر الحديث، إنّما أنت تعرف ما تمكّن أحدٌ في مصر وغيرها منذ الأربعينيّات من الخروج من ظلّ طه حسين في نقد الشعر ونقد النثر وحتى في متابعاته للأدب الحديث. ثقافة طه حسين أساسٌ في الثقافة العربية الحديثة”.

ما كان جابر عصفور صانع مؤسساتٍ ثقافية وحسب، بل كان قبل ذلك وبعده صاحب مذهبٍ ومدرسة في النقد الأدبي، نقد الشعر، ونقد الرواية

ثقافة طه حسين

وبالفعل، وبعدما بدأ اسمه يظهر في النقد الأدبي بالمناهج الحديثة شأن أبناء جيله، عاد في أطروحته للدكتوراه إلى “تأويليّات” طه حسين، فكتب: “طه حسين، المرايا المتجاورة”. وجابر عصفور مغرمٌ برمز المرآة، وهو رمزٌ بالغ العراقة في ثقافات العالم. إنّما نلاحظ أنّ مرايا طه حسين عند جابر عصفور “متجاورة”، وهي قد لا تتحاور بالتقابل مثلاً، لكنّها لا تتباعد بل تتقارب. واشتهر جابر عصفور بين أبناء جيله المشهورين أيضاً باهتماماته بنظرية الأدب، وبالأدب المقارن، وذهابه إلى الترجمات عن الإنكليزية في الاتجاهات النقدية المعاصرة، مع عودةٍ مستمرّةٍ إلى الموروث النقدي العربي. وفي سنوات النصف الثاني من الثمانينيّات ظهرت قدراته القيادية عندما تولّى إدارة مجلة فصول المتميّزة للدراسات الأدبية، ثمّ كان من حظّنا جميعاً تولّيه لإدارة المجلس الأعلى للثقافة.

المجلس الأعلى للثقافة كان باب سائر المثقّفين العرب والعالميّين على مصر بعد انسدادٍ مؤقّتٍ بسبب كامب ديفيد (1979). اجتذب جابر عصفور بقدراته القيادية واستنارته وسعة أُفقه خلال التسعينيّات (وقبل أن تعود الجامعة العربية إلى مصر) كلّ المثقّفين العرب إلى أرض الكنانة: بدعوتهم للمؤتمرات، وبنشر مؤلّفاتهم وترجماتهم، وبالاحتفاء بمشاهيرهم في مناسباتٍ بالمجلس، وأخيراً بحمل بعض نشاطات المجلس إلى بلدانهم. وليس هذا فقط، فخلال فترة لا تزيد على العقد ونصف العقد نشر المجلس مئات الترجمات في سائر مناحي العلوم الإنسانية، وشملت خمس عشرة لغةً، إنّما أهمّها الإنكليزية بالطبع. وكنّا نستغرب جميعاً كيف “يخطر” الجميع على باله حتى لو كانوا صغاراً ما نشروا غير كتابٍ أو كتابين أو رواية أو ديوان شعري. هذه الملاحظة ذكرها أمامي الدكتور عبد العزيز المقالح رئيس جامعة صنعاء عام 1990 عندما كنّا نستقبل بالجامعة الدكتور جابر عصفور الذي جاء محاضراً في نظرية الشعر، وفي زمن الرواية، فرجاه المقالح أن يتحدّث في محاضرةٍ ثالثةٍ عن السياسات الثقافية في المجلس الأعلى.

تعاملتُ مع أستاذنا جابر عصفور في عشرات المناسبات مثل مؤتمر عن طه حسين، وآخر عن الطهطاوي، وثالث عن توتّرات الهويّة، ورابع عن كتابة التاريخ العربي، وفي ندوة عن كتاب بيترغران في إشكاليّات النشوء الرأسمالي في مصر، وندوة أُخرى عن ترجمتي لكتاب روي متحدة: بردة النبي، الدين والسياسة في إيران.  وكان المجلس الأعلى هو ناشر الكتاب، وقد حرص الدكتور جابر عصفور على أن يحضر مؤلّف الكتاب الندوة، فكانت مناسبةً ممتازةً للحديث عن موقع الدين والمرجعيّات الدينية لدى الشيعة والسنّة. وكان الدكتور جابر (وهكذا كنّا جميعاً نناديه) هو الذي نصحني بترجمة الكتاب عندما التقينا بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة هارفرد عام 1997، وكان كلانا أستاذاً زائراً بالمركز.

 

صانع “عالم مصر”

في معظم المؤتمرات والندوات التي يخطّط لها الأمين العامّ بدقّة، ما كان يتحدّث أو يعلّق باستثناء الكلمة الافتتاحية. لكنّه في عدّة مناسبات كان يُثني على محاضرتي بالذات، وكنتُ أعتبر ذلك تشجيعاً لي لأنّ معظم الحاضرين في غالب الأحيان كانوا من علماء الأدب والنقد والرواية والشعر، وكثير منهم ينتسب إلى اليسار المتحرّر، ولا مكان لي أنا الأزهريّ بينهم (!). جابر خطَّأَ ظنّي عندما ألقيتُ محاضرةً عن التراث العربي والإسلامي في كتابات الطهطاوي، فقلبتُ صورته النهضوية التي يحبّها اليساريون أو أنّ محمود أمين العالم فهم ذلك وأراد نقض المحاضرة مع أنّه لم يقرأ للطهطاوي غير تخليص الإبريز والمرشد الأمين للبنات والبنين. فانزعج جابر عصفور وقال للعالم: “أوّلاً رضوان السيد رجع إلى خمسة عشر كتاباً للطهطاوي، وثانياً السيد ليس أزهريّاً فقط، بل هو ألماني أيضاً، وثالثاً منذ أواسط الثمانينيّات قال لي عبد الله العروي: انتبهوا إلى هذا الشاب اللبناني المصري الألماني في تراثيّاته وفي كتابه: “الأمّة والجماعة والسلطة”. فضحك محمود أمين العالم وقال: “هوِّن عليك يا أخي لن أعود لنقد صديقك رضوان”. وكانت له تعليقات مشابهة على محاضرتي: “العالم في مرآة الهويّة”، ثمّ كما هو معروف في تعليقه على حصولي  على جائزة النيل. وما كان كريماً معي فقط، بل كان شديد الكرم والمروءة مع كلّ من يعتبرهم واعدين من المصريّين والعرب. وكان يذكر لي ذلك تلامذته في مصر والكويت وأميركا، عندما كان يحيلهم عليّ ويقول لهم: “أُرسلكم إلى أعظم علماء التراث الأحياء، لكن ليكن في علمكم أنّنا مختلفان كثيراً من الناحيتين الفكرية والدينية”.

لقد استطردْتُ في ذكر ذلك كلّه لكي أصِلَ إلى “عالم مصر” كما بدا من جديد في عهد جابر عصفور بالمجلس الأعلى للثقافة، ثمّ في إنشائه “المركز القومي للترجمة”. وقد يُقال: “لكنّه حديثٌ عن إدارة مؤسسات ثقافية وليس عن نتاجاتٍ علمية”. وأنا أرى أنّ المؤسسة التي تستقطب مئات المؤلّفين والمترجمين والمؤتمرين والمنتدين على مدى عدّة عقود هي نصف العلم بالفعل، وهي صانعة النهوض، ولنتذكّر أنّ الدولة المصرية هي التي تموّل ذلك كلّه. إنّ هذا هو عالم مصر المستقبل والمستوعِب والمحتضن. ولنلتفت إلى إقبال علماء الآثار والطبيعة والمثقّفين والفنّانين العالميّين والمستشرقين إلى مصر منذ حوالى القرنين: لأنّ عالم مصر رحْب، ولأنّها كانت وما تزال تملك مؤسساتٍ مستقبِلة وتاريخاً عريقاً في ذلك. فخلال العقود الثلاثة الأخيرة قرأتُ بالإنكليزية فقط إحدى عشرة دراسة عن العلم والعلماء والحياة الثقافية بمصر في مختلف العصور. وما عدتُ أذكر هل كان ذلك في عام 2004 أو 2005 عندما انعقد مؤتمر بالمجلس الأعلى في ذكرى ابن خلدون. وابن خلدون كما هو معروف لجأ إلى مصر من تونس وبيّض فيها المقدّمة والتاريخ، وتولّى مناصب قضائية رفيعة، ومات بالقاهرة. وجابر عصفور على طريقته في “إكرام نبوغي”، كما كان يقول، طلب منّي أن أُلقي كلمة ضيوف المؤتمر بعد كلمته الافتتاحية. فانتهزت الفرصة، وكان هو قد تحدّث عن لقاء الشوام والمصريين في مصر في القرن التاسع عشر، وذكّرته وذكّرت الحاضرين بأنّ ذلك كان رسالة مصر واستيعابها واحتضانها واستقدامها من أقدم العصور، وربّما من أيّام هيرودوت وأفلاطون. إنّما لنبقَ في الزمن الإسلامي: نصف الحياة الثقافية بمصر صنعها دائماً أُناس من أصول غير مصرية. لقد كتب المغاربة والتونسيون والجزائريون ربّما ألف كتاب عن ابن خلدون في الخمسين سنة الأخيرة، بيد أنّ أحداً منهم ما ذكر أنّ البيئة المصرية في العقود الأخيرة من حياته هي التي مكّنتْه من الاستمرار في الإنتاج والإبداع. فالقسمة إلى أصيل ودخيل كلامٌ فارغ وعجزٌ وقصورٌ وضيق أُفق. والمجلس الأعلى للثقافة في عهد جابر عصفور يمثّل الهوية الحقيقية لمصر وثقافتها وأدوارها في عوالم العروبة والإسلام والإفريقية والعالمية: أَوَلم يذكر ذلك جمال عبد الناصر في “فلسفة الثورة” عام 1953؟

اشتهر جابر عصفور بين أبناء جيله المشهورين أيضاً باهتماماته بنظرية الأدب، وبالأدب المقارن، وذهابه إلى الترجمات عن الإنكليزية في الاتجاهات النقدية المعاصرة، مع عودةٍ مستمرّةٍ إلى الموروث النقدي العربي


التحرّر والنهوض

بعد ثقافة طه حسين، وعوالم مصر، أصِلُ إلى المجال الثالث من مجالات اهتمام والتزام الدكتور جابر: “التحرّر والنهوض”.

في السنوات الخمس عشرة الأخيرة كتب الرجل كثيراً جدّاً. ما توقّف بالطبع عن الكتابة في اختصاصه الأول الأدبي والنقدي، وبخاصة متابعة الأعمال الروائية والشعرية للمؤلّفين الشبّان. وينبغي أن لا ننسى أنّه منذ الثمانينيّات هو صاحب مقولات في الصراع على البنيوية وعلى الإبستمولوجيا، ومقولة: الشاعر-النبي عن شعراء السبعينيّات من ذوي الدعاوى الكبرى الفنيّة أو الثقافية أو السياسية. بيد أنّ نصف مقالاته في الصحف والمجلات الأدبية اتّخذت منحىً راديكالياً في الدعوة إلى العقلانية والتنوير ونقد الأوضاع الدينية الراهنة. وكما كان يجمع مقالاته الأدبية في كتب، فكذلك كان يفعل مع مقالاته في العقلانية والتنوير والتحرّر والتحرير ونقد المؤسسات الدينية وسياسات الدين والأزهر على وجه الخصوص. وما كنتُ أُحبُّ له ذلك، وبخاصةٍ أنّه يعرف الموروث الديني الأصولي والكلامي معرفةً لا بأس بها، وأنّه يستطيع في مجال الخطاب الديني الذي يريد من الأزهر تجديده، أن يساعد هو في ذلك بإعادة قراءة النص الديني مثلما فعل مع النص الأدبي. فقد كان دائماً من أنصار “التواصل” وليس القطيعة شأن راديكاليّي المفكّرين العرب. وكان يقول لي كلّما عاتبتُه على العنف شبه الشخصي في الخطاب: “لا بدّ من إزالة هذا الركام أو نهلك أمةً وديناً”! وقلت له: “أنا أفضّل أسلوب جلال أمين في أعماله: “ماذا حدث للمصريّين” على أسلوبك في النقد العنيف. وأنت تخلط بين أمرين أو فكرين: فكر الأزهر المحافظ، والفكر المتطرّف للجهاديّين والإسلام السياسي. ثمّ هل يقول عاقل وسط هذه الظروف بحذف المادّة الثانية من الدستور؟ ثمّ إنّ مسؤوليّات العلمانيّين عن التطرّف والإرهاب لا تقلّ عن مسؤوليّات الأزهر والمؤسسات الدينية. فالمؤسسات تُلامُ لضعفها، أمّا العلمانيّون فيُلامون لشراستهم! ثمّ ألم تكن مع كلّ العلمانيّين المصريين بالأزهر 2011-2012 حيث صدرت البيانات أو الوثائق الأربع؟ وأين أنت من وثيقة الأخوّة الإنسانية التي وقّعها الشيخ مع البابا عام 2019؟”.

ولمّا قابلتُه للمرّة الأخيرة قبل ستة أشهر، عندما احتفى بي رئيس تحرير الأهرام لمناسبة حصولي على جائزة النيل، بادرني بالقول: “ما عدتُ عن آرائي في التحرّر والتحرير، بيد أنّ العنف في الخطاب الذي كنتُ أقع فيه لا مبرّر له، فلنقابل شيخ الأزهر ولنعتذر منه”. وقد سرّني ذلك كثيراً لكنّي ما استطعتُ تدبير اللقاء.

إقرأ أيضاً: عندما ودّع جابر عصفور “أساس” بكلماته

ما كان جابر عصفور صانع مؤسساتٍ ثقافية وحسب، بل كان قبل ذلك وبعده صاحب مذهبٍ ومدرسة في النقد الأدبي، نقد الشعر، ونقد الرواية، وكان كثير التلاميذ الذين يظلّ مصرّاً على رعايتهم حتى يصبحوا أساتذة أو موظفين كباراً أو وزراء.

إنّها أجيالٌ تعلّمنا منها الكثير، وهي تتّجه إلى الفناء للأسى والأسف، وبمصر على وجه الخصوص.

رحم الله أستاذ جيلنا الدكتور جابر عصفور، وعزائي الخالص لزوجته الدكتورة هالة، وابنه أحمد: وتلك الأيّام نداولها بين الناس.

 

مواضيع ذات صلة

دمشق بين بيروت وطهران: ملابس داخليّة وسجّادة للبيع!

منتصف حرب سوريا، جرى نقاشٌ عميق بين أحد أيديولوجيّي “الممانعة” وأحد ظرفائها حول مستقبل العلاقة بين طهران ودمشق، وبالتالي بين “الحزب” ودمشق. فكانت وجهتا نظر….

إيران بين أوهام الإمبراطوريّة وبراغماتيّة الدّولة

“ويشبّ في قلبي حريق ويضيع من قدمي الطريق، وتطلّ من رأسي الظنون تلومني وتشدّ أذني، فلطالما باركت كذبك كلّه ولعنت ظنّي. ماذا أقول لأدمُع سفحتها…

لبنان ضحيّة منطق إيران… ولامنطق الحزب

حرب من أجل ماذا تسبّب بها الحزب للبنان؟ ما الهدف من حرب، لا منطق لها ولا هدف، بادر الحزب إلى شنّها يوم الثامن من تشرين…

ماتوا… ممنوعين من الاعتراض

مئات من الذين قُتِلوا بالأمس، أو دُمّرت بيوتهم في الأشهر الماضية، ليسوا منتسبين إلى الحزب. بل ويعترضون على سياساته. تلك التي انتهت إلى تدمير بيوتهم…