عندما تتكلّم عن لبنان في نيويورك، أو في مدينة المكسيك أو في بونا سيرس أو في مدينة سيدني بأستراليا، لا يتبادر إلى ذهن السامع أنّك تتكلّم عن لبنان الدولة. فلبنان الدولة ليس له وجود يليق به. له وجود هزيل لا يتعدّى صداه الحدود الجغرافية للبنان. ولكن يتبادر إلى ذهن السامع ذلك اللبنان المصلوب في الشرق، لبنان الحضارة المميّزة بالحرية والتعدّدية الحضارية. لبنان الرسالة. ويتبادر إلى ذهنه لبنان الذي يغوص في التاريخ، ولبنان الذي بنى مدناً كانت منائر الحضارة. بنى جبيل وبيروت وصيدا وصور وبعلبك. ويتبادر أيضاً إلى ذهنه هذا اللبنان المنتشر على مساحة الأرض كلّها. أينما تذهبْ في العالم ترَهم. عيونهم مسمّرة إلى قطعة صغيرة من الأرض، مصلوبة في الشرق بين إسرائيل وسوريا والبحر الأبيض المتوسط. وحده البحر يعانقها بحنان ومحبّة. تعرفهم من محبّتهم لهذه الأرض. محبّتهم للقرى المتناثرة هنا وهناك على الهضاب والجبال والساحل. حنينهم دائماً إلى أهلهم الذين ربّوهم على الصبر والعمل الدؤوب ومحبّة الناس. ربّوهم على الكرامة. يقف المتسوّلون في الولايات المتحدة الأميركية على تقاطع الطرق ويملأون ساحات المدن، لكن ليس هناك بينهم متسوّل واحد من أصل لبناني. هذا شعب له عنفوانه. هذا شعب عنيد لا ينحني إلا في الصلاة لله.
في بناء لبنان الجديد نحن بحاجة إلى كلّ القوى التي يمتلكها الوجود اللبناني في العالم. وأكثر ما نحتاج إليه هو قوة العلم
يتميّز هؤلاء اللبنانيون عن غيرهم من المهاجرين بأنّهم لم يذهبوا إلى أرض في الأرض إلّا وساهموا في بنائها وصنع حضارتها. لم يذهبوا إلى مكان ليدمّروا، بل ليبنوا. لم يذهبوا إلى مكان لصنع الحروب والنزاعات، بل ذهبوا لصنع السلام والازدهار. لقد وقف يوماً جبران خليل جبران على مشارف مدينة نيويورك وصرخ قائلاً: “أيّتها المدينة نحن هنا ليس لنأخذ فقط، بل لنعطي أيضاً، نحن هنا لنشارك في صنع مستقبلك ولنغني حضارتك”. وكانت رسالة هؤلاء اللبنانيين دائماً رسالة عالمية. لقد تكلّم جبران عن قوة المحبّة كما تكلّم عن عظمة الروح. قال إنّ “ما تراه في الإنسان بالعين المجرّدة ليس مهمّاً بقدر ما هو مهمّ ما لا تراه”. وتكلّم جبران عن الله بصلاة جديدة. كان مؤمناً برسالة المسيح، لكنّه لم ينتمِ إلى دين معيّن. لقد انتمى إلى دين يقدّس الإنسان، كلّ إنسان، كائناً مَن كان هذا الإنسان. وانتهى جبران بقناعة ثابتة بأنّ “البشرية جمعاء هي عائلته”. ومايكل دبغي جرّاح القلب الشهير لم تكن إنجازاته الطبية في خدمة الأميركيين أو اللبنانيين من المرضى فقط، بل كانت في خدمة شعوب العالم كلّها. قبله كانت مدينة هيوستن مدينة عادية. بعده أصبحت هذه المدينة عاصمة العالم كلّه في الطبّ. وداني توماس، هذا الرجل الفقير، الذي جاء أهله من لبنان، لم يشيّد أعظم مستشفى في العالم للأمراض السرطانية عند الأطفال في ممفيس بتينيسي (Memphis,Tennessee) لمعالجة المرضى من الولايات المتحدة الأميركية فقط، بل بنى هذا الصرح الطبّي هديّة لكلّ الأطفال في العالم. فهو لم يميّز بين طفل أبيض وطفل أسود، أو بين طفل غنيّ وطفل فقير. كانت عالميّة الرسالة ولا تزال هي قوّة الرسالة.
ويتميّز هؤلاء اللبنانيون أيضاً بأنّ الشعوب التي حضنتهم أحبّتهم. لقد أحبّتهم لقلوبهم الطيّبة، ولكرمهم. أحبّتهم لاحترامهم الآخر ولقدرتهم على الانخراط في مجتمعاتهم ومساهمتهم في إحياء هذه المجتمعات. وأحبّتهم أيضاً لأنّهم جاؤوا بثقافة الفرح وثقافة الحياة. عندما هاجروا من لبنان لم يأخذوا معهم إلا الحضارة وحفنة من تراب الأرض، ليشمّوا رائحتها كلّما اشتاقوا إلى تلك الأرض. في خطاب تاريخي قال رئيس جمهورية المكسيك السيد أدولفو لوبيز ماتيوس: “إذا لم يكن لديك صديق لبناني، فيجب أن تفتّش عن واحد”.
الانتشار نفط لبنان
هذا الانتشار اللبناني، وهذا الحضور المهيب في العالم، هما نفط لبنان الحقيقي. إنّ نفط لبنان في مياهه ليس شيئاً مقارنة بنفطه في العالم. نفطه في البحر سينضب يوماً ما، أمّا نفطه في العالم فلن ينضب أبداً. النفط في مياهنا قوّة اقتصادية فقط، أمّا نفط الانتشار فهو قوى متعدّدة، بالإضافة إلى القوة الاقتصادية. إنّه قوة في العلم. قوة في السياسة. قوة في الطبّ. قوة في الفنّ. قوة في الأدب. قوة في التربية. إنّه قوة تجمع حضارات العالم كلّها. ولكن من المؤسف أنّ لبنان المقيم لم يعرف كيف يتعاطى مع هذه القوّة، فذهبت هدراً. ونحن لا نزال إلى يومنا هذا نتعاطى مع هذه القوة بشكل بدائي، إذ إنّنا نعتبرها قوة اقتصادية فقط يدعم بها المهاجرون أهلهم في لبنان. هذه القوة التي استفاد ويستفيد منها لبنان هي أقلّ من 1% من القوة الحقيقية التي يمكن أن يوفّرها الانتشار للبنانه.
في بناء لبنان الجديد نحن بحاجة إلى كلّ القوى التي يمتلكها الوجود اللبناني في العالم. وأكثر ما نحتاج إليه هو قوة العلم. فخذ مثلاً مؤسسة Cancer Center M.D.Anderson، حيث عملت أستاذاً لسنين عديدة. هذا المركز هو أهمّ مركز في العالم للأبحاث السرطانية ومعالجتها. في هذا المركز يوجد أكثر من ثلاثين طبيباً من هذا البلد الصغير الذي اسمه لبنان. ليس هناك دولة واحدة أخرى في العالم تمتلك هذا العدد من الأطباء في هذا المركز. أينما ذهبت في مدن وجامعات أميركا ترى المبدعين اللبنانيين هناك. العلم هو أساس الدولة، وقوة إسرائيل لا تنحصر بقوّتها العسكرية، بل تتعدّاها إلى قوة العلم فيها. فهذه الدولة الصغيرة التي تمتدّ جنوب حدودنا، ومساحتها صغيرة كمساحة لبنان، وعدد سكّانها قليل مثل لبنان، إلا أنّ جامعاتها تنافس أكبر الجامعات وأعظمها في الولايات المتحدة الأميركية، لأنّ العلم في العقل اليهودي هو مصدر القوة. إنّ لبنان وإسرائيل متشابهان، وكلاهما يمتلكان انتشاراً واسعاً في العالم. ولكنّ الانتشار اليهودي يختلف كثيراً عن الانتشار اللبناني. علاقة الانتشار اللبناني بالوطن هي علاقة رحبانيّة، علاقة فيروزيّة، علاقة روحيّة، علاقة المنتشر بالأرض والأهل في لبنان. لم نتمكّن بعد من أن نرتقي بهذه العلاقة إلى العلاقة الوطنية، بحيث يصبح المنتشر قوّة داعمة لوطنه. إنّ اللبناني المنتشر لا يزال ينتمي إلى الأرض أكثر ممّا ينتمي إلى الوطن. عكس ذلك هو اليهودي، فعلاقته بإسرائيل هي علاقة وطنية صرف. كلّ يهودي يعتبر نفسه مسؤولاً إلى حدّ بعيد عن دعم دولة إسرائيل. إنّ اللبناني لم يرتقِ بعد إلى هذه العلاقة الوطنية. ومن أهمّ الأسباب لذلك هو عدم ثقة المنتشر اللبناني بدولته، إضافة إلى كونه يعتبر نفسه هارباً من بلاده، هارباً من الظلم والفساد. اللّبناني عكس اليهودي يحتقر دولته ولا يثق بها. وقد أردت أن أتكلّم عن الانتشار اللبناني مقارنة بالانتشار اليهودي، لأنّ اللبنانية العالمية يجب أن تتعلّم من اليهودية العالمية. نحن نرفض دولة إسرائيل ليس فقط لأنّها اغتصبت الأرض في فلسطين بعدما اغتصبت العقل في الغرب، بل أيضاً لأنّها نموذج يلغي الآخر على أرضه، إذ إنّها الدولة الوحيدة في العالم التي أُنشئت لشعب من دين واحد. نموذج هو عكس النموذج اللبناني الذي يرتكز على التعدّدية الحضارية. ليس عيباً أن نتعلّم من أعدائنا. العيب هو أن نرفض أن نتعلّم. يجب أن نتعلّم الأمور التالية:
لبنان وإسرائيل متشابهان، وكلاهما يمتلكان انتشاراً واسعاً في العالم. ولكنّ الانتشار اليهودي يختلف كثيراً عن الانتشار اللبناني
أوّلاً: إنّ العلاقة الفيروزيّة وحدها لا تبني وطناً، فيجب أن نرتقي إلى العلاقة الوطنية. أنا أفهم عدم ثقة المنتشر اللبناني بالدولة اللبنانية، إلا أنّه يجب أن نثمّر في ثقتنا بالشعب اللبناني. إنّ هذا الشعب، الذي ضلّ الطريق نتيجة الثقافة السياسية الشعبية التقليدية في لبنان التي أفرزت هذه الطبقة الفاسدة، بوسعه الانتفاضة على هذه الثقافة والتحرّر منها. نحن نثق بهذا الشعب ولا خيار لدينا غير الإيمان به.
ثانياً: أهمّ ما يمكننا أن نعمله في الانتشار هو توحيد هذا الانتشار تحت قيادة حكيمة واحدة. فالانتشار كما هو اليوم مشرذم كاللبنانيين المقيمين. كلّ ذلك يعود إلى عدم وجود قيادة سياسية في لبنان. إلى يومنا هذا لم تأتِ قيادة حكيمة قادرة على صنع رؤية موحّدة لهذا الوطن. فتوحيد الانتشار هو تحدٍّ كبير لنا، وإن لم نتمكّن من تحقيقه تبقى قدرة هذا الانتشار على إحياء لبنان ضعيفة جدّاً.
ثالثاً: يجب تفعيل هذا الانتشار بحيث يشعر كلّ لبناني منتشر بمسؤولية صنع مستقبل أهله وأقاربه وشعبه في لبنان. يجب أن يصبح لبنان بالنسبة إلى اللبنانية العالمية كما هي إسرائيل بالنسبة إلى اليهودية العالمية.
رابعاً: يجب بناء لوبي لبناني فاعل في دول العالم كلّه، وأن تكون قيادته في الولايات المتحدة الأميركية حيث تؤخذ القرارات الأساسية والكبرى المتعلّقة بمستقبل لبنان ومستقبل الشرق الأوسط. وليس لديّ أيّ شكّ أنّنا قادرون على إنشاء لوبي ضاغط وفاعل يعمل مع الإدارة الأميركية ومع الدول الأوروبية للمحافظة على استقلال لبنان وسيادته وحرّيته. ونحن اليوم بحاجة إلى هذا اللوبي أكثر من أيّ يوم مضى.
خامساً: ما يجب أن نفعله اليوم هو أن نحوّل اللبنانية العالمية إلى قوة تغيير في لبنان. إنّ كلّ القوى السياسية التي رفعت شعار التغيير والإصلاح في لبنان قد فشلت. وأخطر من ذلك أنّ هذه القوى كلّها كانت ضدّ التغيير والإصلاح. كانت قوى فاسدة تعمل في سبيل مصالحها الخاصة من دون الاهتمام بمصالح لبنان. وبعكس اللبنانيين المقيمين، المنتشرون متحرّرون من القيود التي تكبّل وطنهم. فالمنتشر قد عاش في دول ومجتمعات تعرف معنى الحريّة، وتعرف معنى الديموقراطية ومعنى احترام الآخر ومعنى النزاهة في الحكم. نحن نمتلك اليوم فرصة تاريخية للتغيير بالطرق الديموقراطية، وهي الانتخابات النيابية المقبلة. وعلى الرغم من أنّني على ثقة بأنّ السلطة ستعمل كلّ ما بوسعها لإلغاء هذه الانتخابات، علينا أن نكون حاضرين لها، ويجب أن نعي أنّ مسؤوليّتنا في هذه الانتخابات هي فرز طبقة جديدة من السياسيين يكون ولاؤهم أوّلاً وأخيراً للبنان، وتكون لهم القدرة على بناء الدولة.
إنّ لبناننا يواجه اليوم أزمة وجودية ومصيرية. فوجوده السياسي والحضاري في الشرق مهدّد، إذ تقبض على قراره قوة سياسية تمتلك أيديولوجية غريبة عنه وعنّا. أيديولوجية متجذّرة في الدين تؤمن بأنّ القوة العسكرية هي الخيار الوحيد لتمدّدها. هذه القوة هي الثورة الإيرانية الإسلامية التي تعتنق الدين مرتكزاً أساسيّاً للسياسة، فيما نحن نعمل على فصل الدين عن الدولة وبناء دولة مدنية في لبنان. هذه الثورة الإسلامية لا تريد تغيير الجغرافيا السياسية في الشرق فقط، بل تريد أيضاً تغيير الجغرافيا الحضارية. إنّها حضارة أحادية لا تؤمن باحترام الآخر. حضارة خارج حضارة العالم، إذ تؤمن بثقافة الاستشهاد وثقافة الموت فيما نحن نؤمن بثقافة الحياة وثقافة الفرح. من أجل ذلك كلّه نحن ندعو كلّ اللبنانيين مقيمين ومنتشرين إلى عدم القبول بالواقع وبعدم الاستسلام للإحباط، وإلى الرفض الكامل والصلب لهيمنة الثورة الإيرانية على لبنان. لذا يجب إحياء الثورة في الداخل اللبناني، وتفعيل الانتشار اللبناني في العالم، وجعله قوة كبيرة للتغيير ولإحياء لبنان.
إقرأ أيضاً: لبنان ينتظر القيادات الجديدة
لبنان يستحقّ أن نحبّه. يستحقّ أن يكون الولاء له وحده. يستحقّ أن يحيا. وتليق به الحياة. وإن لم نعمل على تحقيق ما يستحقّ، نكون نحن المقيمين في لبنان والمقيمين في العالم شعباً لا يستحقّه.
*رئيس “مركز سالم للسرطان” في هيوستن.