عنصرية 1948: ذهبت جنوب أفريقيا وبقيت إسرائيل

مدة القراءة 4 د

منذ أسابيع قليلة توفّي رئيس أساقفة “كيب تاون”، واسمه “ديزموند توتو”. كان رفيق نلسون مانديلا في الكفاح ضدّ العنصرية في جنوب إفريقيا. وقبل أشهر، أو تحديداً في 11 تشرين الثاني، توفّي “فريديريك دي كلارك”، آخر رئيس لجنوب إفريقيا العنصريّة.

بعد أشهر قليلة من الاتفاق على تحرير جنوب إفريقيا من النظام العنصري، زرتُ جنوب إفريقيا. وأذكر أنّ رئيس الأساقفة “توتو” قال لي يومها إنّ “كلّ ما نطالب به أركان النظام السابق هو أن يدلّونا أين دفنوا أحباءنا. لا نريد محاكمة ولا محاسبة أحد. نريد فقط أن نعيد دفن أهلنا باحترام وكرامة. لكنّهم مع الأسف الشديد يصرّون على عدم الاستجابة”.

تولّى ديزموند توتو رئاسة “لجنة الحقيقة والمصالحة”. كان يقول إنّ المصالحة تقوم على معرفة الحقيقة. والحقيقة الأولى “هي معرفة مصير الآلاف من شبّابنا الذين قُتلوا ولا نعرف مصيرهم (تردّد أنّ جثثهم أُلقي بها في أقفاص حديقة الحيوانات)”. لكنّ الشخص الذي لم يكن يجهل هذا المصير هو دي كلارك، الذي لم يفتح فمه على الرغم من أنّه بموجب اتفاق المصالحة الوطنية تولّى منصب نائب الرئيس نيلسون منديلا في عام 1989. كان يقول: “من سوء الحظّ اعتمدنا النظام العنصري”. لكنّه لم يعترف بأنّ ذلك كان أكثر من سوء حظّ، وأنّه كان خطّاً، إلا في الأيّام الأخيرة من حياته.

يقف اليوم ديزموند توتو الأسقف الأسود وفريديريك دي كلارك الرئيس ونائب الرئيس الأبيض، أمام عدالة الله ليحكم بينهما في ما كانا فيه يختلفان

لم يكن دي كلارك سعيداً بمنصبه. كان هو الرئيس في العهد العنصري. وكان جدّه ووالده وأسرته من مؤسّسي الدولة والنظام العنصري في عام 1948، أي في عام قيام إسرائيل. فأصبح، مضطرّاً، نائباً لرئيس أسود، كافح حتى إسقاط النظام العنصري.

إنّ صدفة قيام النظامين العنصريّين في جنوب إفريقيا وفلسطين تحوّلت إلى جسر للتعاون بينهما وصل إلى حدّ إجراء الاختبارات والدراسات والتجارب النووية المشتركة. وعندما سقط النظام العنصري في جنوب إفريقيا، ارتفعت أصوات نلسون مانديلا وديزمونت توتو ضدّ النظام العنصري في إسرائيل.

أدّى سقوط النظام العنصري في جنوب إفريقيا إلى سقوط برنامجها النووي. لكنّ العالم سكت على البرنامج النووي الإسرائيلي الذي كان بدأ بمساعدة فرنسية بإنشاء مفاعل ديمونا في صحراء النقب، ثمّ تطوّر بمساعدة أميركية.

كان دي كلارك يؤمن بأنّ الله خلق الناس أجناساً مختلفة، وخصّص لكلّ جنس موقعه ومكانه. وبموجب ذلك فإنّ جنوب إفريقيا مخصّصة للعنصر الأبيض (وهو يشبه ما يؤمن به الإسرائيليون من أنّ الله وعدهم بأرض فلسطين). ولذلك جرى تجميع الأفارقة من المدن التي أصبحت مدن الإنسان الأبيض فقط، ودُفِع بالأفارقة إلى الغابات ليواجهوا مصيرهم (وهذا ما فعلته إسرائيل بتهجير الفلسطينيّين في عام 1948).

هنا تتوقّف المقارنة. ذلك أنّ دي كلارك أصيب بصحوة ضمير. كان ذلك في عام 1990 عندما تعهّد أمام البرلمان في جوهانسبرغ أن يعمل على إنهاء النظام العنصري، على الرغم من أنّه وعائلته هم من مؤسّسيه. وبالفعل أُلغي النظام تحت ضغط المقاطعة العالمية، اقتصادياً وسياسياً، لجنوب إفريقيا. وهكذا خرج، أو أُخرج، نلسون مانديلا من السجن ليصبح رئيساً للدولة وليتولّى دي كلارك، العنصري السابق بامتياز، منصب نائب الرئيس في النظام الجديد. وعلى عكس هذا الاتجاه التصحيحيّ، أعلنت إسرائيل في قرار اتّخذه الكنيست، مجلس النواب، أنّها دولة دينية يهودية، وهو ما يجعل غير اليهود من المسلمين والمسيحيّين مواطنين من الدرجة الثانية.

إقرأ أيضاً: أميركا – إسرائيل: ضوء أصفر لضرب إيران؟

تعلّمت إسرائيل من تجربة جنوب إفريقيا درساً دفعها إلى المزيد من التطرّف. ذلك أنّه في عام 1994 أُجريت انتخابات عامّة، بعد إلغاء النظام العنصري، فاز فيها الحزب الوطني برئاسة مانديلا بثلثيْ مقاعد البرلمان. وهكذا تولّى مانديلا نفسه الرئاسة، وتكرّم على دي كلارك، الذي يمثّل ثلث الأصوات، بمنصب نائب الرئيس. قبِل دي كلارك على مضض، وكان قبوله بداية النهاية للنظام العنصري. وقد اعترف قبل وفاته بأنّ ذلك لم يكن خطأ، لكنّه كان أمراً لا بدّ منه.

يقف اليوم ديزموند توتو الأسقف الأسود وفريديريك دي كلارك الرئيس ونائب الرئيس الأبيض، أمام عدالة الله ليحكم بينهما في ما كانا فيه يختلفان.

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…