لا أُنس في ليالي فيينا. والخيار العسكري ينهض بتثاقل من تحت الطاولة.
في غرفة التّفاوض لإعادة إحياء الاتفاق النّوويّ، يُراوغ الإيرانيّون ويعيدون، في كلّ مرة، المُفاوضات إلى المُربّع الأوّل. الأوروبيّون تائهون ومُنقسمون على أنفسهم. الرّوس والصّينيّون على حيادٍ أقرب إلى موقف طهران. أمّا وفد العمّ سام، الذي يرأسه المبعوث الخاص إلى إيران روبرت مالي، فيجلس وحيداً في غرفةٍ مُجاورة.
في عاصمة القرار واشنطن يضربُ التّيهُ إدارة الرّئيس جو بايدن المُحاصَر داخليّاً بأزمة كورونا والتّضخّم الاقتصاديّ، والأهمّ اقتراب استحقاق الانتخابات النّصفيّة، ومعها مُستقبله السّياسيّ الذي يستطيع أن يحميه في فيينا إمّا عبر الاتفاق وإمّا عبر كبح جماح إيران النّوويّ. وهذا ما يُفسّر التّصريح العالي النّبرة لوزير الدّفاع الأميركيّ الجنرال أوستن لويد الذي قال إنّ الإيرانيّين “يلعبون في فيينا وأوروبا تعلم ذلك”.
واختيار الإدارة الأميركيّة رئيسَ إدارتها العسكريّة للإدلاء بتصريحٍ عن “مُحادثات دبلوماسيّة” ليس تفصيلاً عابراً. هذه رسالة “عسكرية”، في حال انتهاء المسار الديبلوماسي.
بحسب معلومات حصلَ عليها “أساس” من مصدرٍ رسميّ مُقرّب من المبعوث الخاص إلى إيران روبرت مالي، فقد لاحظَ الأميركيّون والأوروبيّون أنّ الوفدَ الإيرانيّ الجديد يحمل مهمّة نسفُ الجلسات الـ6 السّابقة
لكن في تل أبيب لا تيهَ على الإطلاق. هُناك كان وزير الدّفاع بيني غانتس يُصرّح جهاراً: “أخبرتُ وزير الخارجيّة الأميركيّ عن توجيهاتنا للجيش بالاستعداد لضرب إيران”.
كُلّ هذا يؤكّد أنّ مُحادثات فيينا لا تسير على ما يرام. فماذا يحدث في العاصمة النّمساويّة؟
بحسب معلومات حصلَ عليها “أساس” من مصدرٍ رسميّ مُقرّب من المبعوث الخاص إلى إيران روبرت مالي، فقد لاحظَ الأميركيّون والأوروبيّون أنّ الوفدَ الإيرانيّ الجديد يحمل مهمّة واحدة على الطّاولة، وهي “نسفُ الجلسات الـ6 السّابقة”، وذلك لتصير المُفاوضات أكثر انسجاماً مع طريقة تفكير مُرشد الثّورة علي خامنئي.
بعد جلسة اليوم الأوّل الاستكشافيّة، دخل الإيرانيّون قاعة المُحادثات في اليوم الثّاني وكان رئيس الوفد علي باقري كنّي في غاية الصّراحة بقوله إنّهم “غير معنيّين بما توصّلت إليه حكومة الرّئيس الأسبق حسن روحاني”. وكانوا أكثر وضوحاً بإبلاغ الأوروبيّين الذين بدورهم نقلوا إلى الوفد الأميركيّ في الغرفة المُجاورة: “لا يعنينا مبدأ الامتثال المُتبادل، ولا الأقلّ مُقابل الأقلّ. ببساطة، علِّقوا العقوبات وعودوا إلى اتفاقٍ يلحظُ ضمانة عدم الانسحاب مُستقبلاً، ويعود الاتفاق فاعلاً بمفرده”.
بعد الرّسالة الإيرانيّة، كان ردّ الوفد الأميركيّ واضحاً: “ترسيخ الاتفاق عبر الكونغرس ليس بالأمر السّهل، ومن دون موافقة المُشرّعين لا يمكن لأيّ رئيس أميركي ضمان كيف سيتعامل الرّؤساء المُقبلون مع أيّ وعود قد تقطعها إدارته. هذه هي الديموقراطية”.
لم تُطل إيران بالرّد على الجواب الأميركيّ بالإصرار على أنّ طلبَ الضّمانات ورفع العقوبات هو أقلّ ما يمكن أن يقبل به مُرشد الثّورة عليّ خامنئي، وعليه فإنّ الأفق مسدودة في حال لم تُلبِّ واشنطن المطالب الإيرانيّة.
وفي رّسالة نقلها عبر الأوروبيين، مُمثّلين بالمُمثّل الأعلى للاتحاد الأوروبيّ للشّؤون الخارجية والأمنية جوزيب بوريل ومُنسّق الاتحاد بشأن المُفاوضات النّوويّة إنريكي مورا، قال الوفد الإيرانيّ: “صواريخنا الباليستيّة ومصالحنا القوميّة غير قابلة للنّقاش لا خلال التفاوض ولا بعده”.
كشفَت مصادر وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس” أنّ غانتس أطلع نظيره الأميركيّ ووزير الخارجيّة أنتوني بلينكن على جدولٍ زمنيّ أعدّه الجيش الإسرائيلي للهجوم على إيران
دفعَ انسداد الأُفق في فيينا الإدارة الأميركيّة إلى تشغيل مُحرّكات العقوبات. وفي رسالة واضحة إلى طهران، أوفدت واشنطن رئيس مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بوزارة الخزانة أندريه جاك إلى دولة الإمارات، ثاني أكبر شريك تجاري لطهران، وقناتها للمعاملات التجارية والمالية مع الدول الأخرى.
في هذا الصدد، كشف المصدر لـ”أساس” أنّ زيارة رئيس الـOFAC إلى الإمارات قد تتبعها زيارات لدولٍ أُخرى يعتمد عليها الاقتصاد الإيرانيّ، مثل تركيا ودولة قطر والعراق. وأضاف: “سيلمس الإيرانيّون أنّ الإدارة جادّة جدّاً في شأن العقوبات الجديدة”. ولمّح إلى أنّ إدارة بايدن قد تلجأ إلى مجلس الأمن لإعادة تفعيل العقوبات الأمميّة على طهران، لكن يبدو أنّ هذا الخيار صعب بسبب اصطدامه برفضٍ روسيٍّ – صينيّ مُشترك.
تل أبيب – واشنطن: لا “فيتو”
في الكيان العبريّ حيثُ أعلن وزير الدّفاع، تزامناً مع الجولة السّابعة في فيينا، أنّه يسنّ رماح جيشه، لا يبدو أنّ الفيتو الأميركي ضدّ الخيار العسكريّ لا يزال قائماً.
على الرّغم من التّصريحات الأميركيّة ذات الطّابع العسكريّ تجاه إيران، بدءاً من قائد المنطقة الوسطى في الجيش الجنرال كينيث ماكينزي، وصولاً إلى تصريح وزير الدّفاع لويد أوستن وكشف صحيفة “نيويورك تايمز” أنّ بايدن طلب قبل شهرين من مُستشار الأمن القوميّ جايك سوليفان الاطّلاع على الخطط العسكريّة المُعدّة للهجوم على إيران، إلّا أنّ “خيار الدّبلوماسيّة لا يزال يتقدّم لدى إدارة بايدن من دون إزاحة الخيار العسكريّ”.
وصلَت هذه الرّسالة إلى مسامع وزير الدّفاع بيني غانتس ورئيس الموساد ديفيد برنياع اللذيْن زارا عاصمة القرار قبل أيّام. قدّم غانتس وديدي وثائق ومعلومات استخباريّة جديدة عن تقدّم إيران نحو “القنبلة النّوويّة”.
وفي هذا الإطار، كشفَت مصادر وزارة الخارجيّة الأميركيّة لـ”أساس” أنّ غانتس أطلع نظيره الأميركيّ ووزير الخارجيّة أنتوني بلينكن على جدولٍ زمنيّ أعدّه الجيش الإسرائيلي للهجوم على إيران. وكشف أنّ الجدول ليسَ محصوراً بالمنشآت النوويّة فقط، إذ يتضمّن منشآت عسكريّة برّية وبحريّة للحرس الثّوريّ والدّفاع الجوّي الإيرانيّ ومنشآتٍ مُرتبطة ببرنامج الصّواريخ الباليستيّة والطّائرات المُسيّرة.
وقال المصدر إنّ بلينكن وأوستن لم يُصرّحا هذه المرّة برفض الإدارة الأميركيّة للخطوات العسكريّة، إذ اكتفيا بالقول إنّ بايدن يُفضّل خيارَ الدّبلوماسيّة. بكلامٍ آخر، لم يُرفع “الفيتو” هذه المرّة، على عكس الزّيارات السّابقة. وبحسب المعلومات الخاصّة بـ”أساس” كرّر غانتس أمام بلينكن موقف حكومته من أنّ أيّ عودة لاتفاق 2015 لا ينبغي أن يُرافقها رفعٌ للعقوبات، إذ إنّ المليارات التي ستحصل عليها إيران ستستثمرها بتطوير الصّواريخ ودعم الميليشيات في المنطقة.
وبينما كان غانتس يستعرض جدوله العسكريّ، كان رئيس الموساد ديدي برنياع يلتقي نظيره الأميركيّ وليام بيرنز. كان ديدي في اللقاء مع مدير الـCIA يستعرض المعلومات التي حصل عليها الموساد عن التّقدّم الإيرانيّ نحو القنبلة النّووية. لكنّ بيرنز كان يُعيد على مسامع رئيس المُوساد ما قاله في تل أبيب لبنيت في آب الماضي، والذي كان “أساس” أوّل من كشف عن تفاصيله: “إيّاكم أن تنتقدوا إدارة بايدن في العلن، حافظوا على إبداء مُلاحظاتكم في الغرف المُغلقة من دون أن ترتكبوا أخطاء نتانياهو اتجاه إدارة أوباما”.
إقرأ أيضاً: هل تُخفي مفاوضات فيينا مفاجآت إيرانيّة؟
مع إصرار طهران على المُراوغة النّوويّة على حافّة الهاوية، لا يبدو أنّ الرّئيس بايدن جاهزٌ لمُراقصة الملالي. يعرف سيّد البيت الأبيض أنّه لا يستطيع أن يُراقصَ ملالي إيران إلى الأبد، فيما قيصر روسيا فلاديمير بوتين يُراقصه على حدود أوروبا الشّرقيّة من بيلاروسيا وصولاً إلى أوكرانيا والبحر الأسود، وفيما التّنّين الصّيني الذي خرجَ من القُمقم يحوم فوق حلفاء واشنطن في الشّرق الأوسط ليجدَ موطئ قدمٍ له في ساحةٍ أميركيّة جديدة.
صارَ الجوّ في واشنطن شبه محسومٍ: “علينا حسمُ الملفّ النّوويّ لنتفرّغ لروسيا والصّين والأخطار الوجوديّة، وإن لم نفعل ذلك، فلن نُمانع أن تحسمه إسرائيل”.