لم يكن اغتيال رفيق الحريري مجرّد اغتيال لرجل. كان ذلك قتلاً لفكرة ناجحة، في الماضي. اسم الفكرة لبنان بالأسس التي قام عليها. بلد عاش قرناً كاملاً منذ إعلان قيام دولة لبنان الكبير في اليوم الأوّل من أيلول 1920… إلى يومنا هذا.
دخل بقاء البلد واستمرار وجوده مرحلة التساؤلات في أيّامنا هذه، في ضوء القضاء على فكرة المشروع المتكامل للبلد التي سعى رفيق الحريري إلى إعادة الحياة إليها، وذلك بعد اقتناعه بها إثر احتكاكه بالعالم.
مثّل رفيق الحريري حقيقةً وُجدت على الأرض وليس مجرّد حلم بقي في مخيّلة كثيرين من اللبنانيين وغير اللبنانيين من الإخوة العرب الذين آمنوا بلبنان واستثمروا فيه. عاشت هذه الحقيقة سنوات عدّة، لم تكن طويلة ما يكفي، من أجل استعادة البلد. كان مطلوباً القضاء على هذه الحقيقة التي استطاع رفيق الحريري إيجادها على أرض الواقع مستنداً إلى معطيات لبنانيّة تتجاوز مؤسسات الدولة. من هذا المنطلق، لم يأتِ إيصال “حزب الله” ميشال عون إلى قصر بعبدا من عبث. كان الإتيان بميشال عون رئيساً تتويجاً لخطة مدروسة في سياق جهود مستمرّة منذ ما يزيد على أربعين عاماً تستهدف القضاء على فكرة لبنان.
يفسّر اغتيال رفيق الحريري قبل سبعة عشر عاماً وبقاء اللبنانيين، في معظمهم، أوفياء له، تمسّك هؤلاء اللبنانيين بحلم صار حقيقة، اسم الحقيقة بيروت
بدأت عمليّة القضاء على الفكرة، بطريقة ممنهجة، منذ صيف العام 1982 عندما دخلت المجموعة الأولى من “الحرس” الثوري الإيراني إلى منطقة بعلبك اللبنانية. كانت الحجّة وراء دخول الإيرانيين وسيطرتهم على ثكنة الشيخ عبدالله التابعة للجيش اللبناني هي المساعدة في دحر الاحتلال الإسرائيلي في مرحلة ما بعد الاجتياح. رحل الإسرائيلي وبقي السوري والإيراني… ثمّ الإيراني وحده.
بيروت الحلم المفقود
يفسّر اغتيال رفيق الحريري قبل سبعة عشر عاماً وبقاء اللبنانيين، في معظمهم، أوفياء له، تمسّك هؤلاء اللبنانيين بحلم صار حقيقة، اسم الحقيقة بيروت. بيروت، كبداية لتحويل كلّ لبنان إلى بلد مزدهر. ما لبث الحلم – الحقيقة أن أفلت من يد اللبنانيين. لكنّ ما ينساه كثيرون أنّ ما مهّد لإعادة الحياة إلى بيروت ووسطها، في ظروف في غاية الصعوبة والتعقيد إقليميّاً، استثمار رفيق الحريري في الإنسان اللبناني وفي المؤسّسات. مَن يتذكّر عدد الطلاب الذين أرسلهم رفيق الحريري ليدرسوا في الخارج وكانوا من كلّ الطوائف والمذاهب والمناطق… وحتّى الطبقات الاجتماعيّة؟ مَن يتذكّر دعمه الجيش اللبناني عندما انهارت الليرة اللبنانيّة في ثمانينيّات القرن الماضي؟ مَن يتذكّر دعم مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت والعاملين فيه ودعم أساتذة الجامعة كي لا يغادروا لبنان؟ لم يقتصر الدعم على الجيش والجامعة الأميركية، بل شمل مؤسسات تعليمية أخرى في لبنان، بينها مؤسسات فرنسيّة وأخرى وطنيّة مثل الجامعة اللبنانيّة. الأكيد أنّه لا يمكن أيضاً تجاهل كلّ التقديمات إلى مؤسسات إسلاميّة ومسيحيّة عريقة لعب رفيق الحريري دوراً في استمرارها في خدمة الناس.
هذا غيض من فيض ما فعله الرجل من أجل استعادة لبنان والعمل بعد ذلك على إعادة الحياة إلى بيروت وتحويل الحلم إلى حقيقة بعيداً عن الشعارات الفارغة. الأهمّ من ذلك كلّه أنّ رفيق الحريري حال دون بقاء الأرض اللبنانيّة طاردة لأهلها، خصوصاً في مرحلة وجود ميشال عون في قصر بعبدا للمرّة الأولى وإخراجه منه في 13 تشرين الأوّل 1990. وقتذاك، نقل ميشال عون الحرب مع “القوات اللبنانيّة” إلى المناطق ذات الأكثريّة المسيحيّة، إلى قلب كسروان، لعلّ ذلك يرضي حافظ الأسد ويقبل بجعله رئيساً للجمهوريّة…
انتصار مشروع إيران
مع غياب رفيق الحريري، ومع مرور كلّ هذه السنوات على الغياب، تفكّك لبنان وتفكّكت معه سوريا. ربح المشروع الإيراني، أقلّه مؤقّتاً، خصوصاً بعد انهيار الجامعة والمدرسة والمستشفى والإعلام وكلّ القطاعات المرتبطة بالخدمات. في النهاية انتصر “حزب الله” على لبنان وصار جزءاً لا يتجزّأ من التركيبة السورية، كجزء من الاحتلالات الخمسة للبلد.
وجد رفيق الحريري، قبل أن يصبح في موقع رئيس مجلس الوزراء في العام 1992، مدخلاً لمشروعه الإنقاذي. هل من مدخل في السنة 2022 لإعادة تركيب لبنان؟ أَوَلا يزال في الإمكان إعادة تركيبه؟
لا وجود في الوقت الحاضر لأيّ صيغة واضحة لإعادة الأمل إلى اللبنانيين ووقف نزف الهجرة والخراب؟ كلّ ما في الأمر أنّ هناك اجتهادات وبحثاً عن صيغة، لكنّ الأقرب إلى الواقع هو اللامركزيّة الموسّعة التي تبقى أفضل الحلول. لكنّ السؤال، الذي سيظلّ يطرح نفسه بإلحاح ليس بعده إلحاح، هو ذلك المرتبط بموازين القوى في المنطقة. في ظلّ أيّ موازين للقوى يمكن إعادة تركيب لبنان المرشّح لأن يصبح بلداً مؤجّلاً؟
عرف رفيق الحريري في مرحلة معيّنة إيجاد اختراقات ينفذ منها بمشروعه، على الرغم من كلّ الجهود التي بذلها حافظ الأسد، بتفاهم مع “الجمهوريّة الإسلاميّة” الإيرانيّة لتلغيم اتفاق الطائف وإفراغه من مضمونه وتمزيق أيّ غطاء عربي ودولي له.
بذل رفيق الحريري كلّ ما يستطيع من أجل لبنان ومن أجل إقناع الأسد الأب بأنّ ازدهاره لن ينعكس سلباً على سوريا والنظام العلويّ فيها وأن لا ضرورة للذهاب إلى حلف الأقلّيّات. اقتنع الأب، وإن ظاهراً، لكنّ الأسد الابن (بشّار) لم يقتنع. فضّل تغطية جريمة التخلّص من رفيق الحريري، التي ليس سرّاً مَن يقف وراءها. كانت النتيجة كوارث على لبنان وعلى سوريا أيضاً. كان لبنان فكرة ناجحة… كان يمكن لهذه الفكرة التمدّد إلى سوريا أيضاً. انتهت الفكرة مع رفيق الحريري.
إقرأ أيضاً: عن رجل احتاج قتله سبعة عشر عاماً
هل انتهى لبنان كحلم صار حقيقة؟
وهل انتهت معه سوريا أيضاً؟