عن رجل احتاج قتله سبعة عشر عاماً

مدة القراءة 5 د

كانت الحاجة إلى سبعة عشر عاماً للتأكّد من موت رفيق الحريري، للتأكّد من أنّه لن تقوم قيامة لبيروت وللبنان يوماً. قاوم رفيق الحريري كلّ هذه السنوات من حيث هو. ليس سهلاً على إنسان، مهما كان حجمه، البقاء صامداً سبعة عشر عاماً في تلك المواجهة مع قتلة بيروت ولبنان. هؤلاء استطاعوا أخيراً إطفاء أضواء المدينة… وجعل وسطها وكلّ ما هو محيط به من أحياء وشوارع لا حياة فيهما. استطاعوا أيضاً القضاء على كلّ المقوّمات التي قام عليها “لبنان الكبير” منذ إعلان قيامه في الأوّل من أيلول 1920.

لم تكن الحاجة إلى طنّ من المتفجّرات للقضاء على رفيق الحريري ورفاقه يوم الرابع عشر من شباط 2005. لكنّ كمّيّة المتفجّرات المستخدَمة تكشف جانباً أساسيّاً من خفايا الجريمة، وهو جانب يعكس حجم الحقد على الرجل وعلى بيروت ولبنان.

كانت الحاجة إلى أكثر من تفجير رفيق الحريري بغية التخلّص منه ومن لبنان. لجأ القتلة ذاتهم إلى سلسلة اغتيالات للبنانيين شرفاء، كان أوّلهم سمير قصير وجورج حاوي وجبران تويني وبيار أمين الجميّل… وصولاً إلى محمد شطح، مروراً بوليد عيدو وأنطوان غانم ووسام عيد ووسام الحسن. كذلك، كانت الحاجة إلى حرب مع إسرائيل افتعلها “حزب الله” من أجل الانتصار على لبنان في العام 2006، وإلى اعتصام طويل في وسط بيروت لإغلاق أكبر عدد من المتاجر والمصالح فيه.

 

كانت الحاجة في مرحلة معيّنة (أيّار 2008) إلى غزو بيروت والجبل لإخضاع السُنّة والدروز، وقبل ذلك إلى حرب مخيّم نهر البارد في 2007، ثم إلى منع الأكثرية من الحكم بعد انتخابات 2009 التي خسرها “حزب الله”.

كانت الحاجة إلى محطات عدّة ودماء كثيرة أيضاً بغية الوصول إلى لحظة الذكرى الـ17 لاغتيال رفيق الحريري ورفاقه في بلد رئيس الجمهوريّة فيه ميشال عون ويحكمه فعلاً “حزب الله”.

كانت حاجة إلى كلّ تلك المحطّات والدماء، آخرها دماء لقمان سليم وآخرين للتأكّد من موت لبنان ومن أنّه أمكن القضاء على البلد وعلى مشروع إعادة الحياة إليه بعد عزله عربيّاً.

قَدِم وزير الخارجيّة الكويتي الشيخ أحمد الناصر المحمّد الصباح إلى بيروت حاملاً “رسالة كويتيّة، خليجيّة، عربيّة، دوليّة”. جاء الردّ على تلك الرسالة ليثبت أن لا حياة لِمَن تنادي. الحرب الأهليّة التي يتخوّف منها الذين لا أجوبة لديهم عن الرسالة الكويتية التي تدعو إلى تنفيذ القرارات الدوليّة، خصوصاً القرار 1559، حصلت. خرج طرف واحد منتصراً من تلك الحرب الأهليّة. المنتصر هو إيران التي تقطف في السنة 2022 ثمار جهود بذلتها طوال أربعين عاماً من أجل تغيير هويّة لبنان بشكل نهائي.

احتاجت “الجمهوريّة الإسلامية” في إيران إلى 17 عاماً كي تُسقط رفيق الحريري ويسقط معه لبنان وتسقط بيروت

بيروت وعبد اللهيان

ليس صدفة أنّ وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان كان أوّل مسؤول أجنبي يزور بيروت بعد تشكيل حكومة نجيب ميقاتي في تشرين الأوّل الماضي. ليس صدفة أيضاً كلامه عن استعداد إيراني لإعادة بناء مرفأ بيروت وإنشاء محطات كهرباء. ليس مثل هذا الكلام عن مرفأ بيروت والكهرباء كلاماً عاديّاً، خصوصاً إذا عرفنا أنّ الكهرباء والمرفأ، الذي بناه الفرنسيون في القرن التاسع عشر، كانا في رأس اهتمامات الرئيس إيمانويل ماكرون في زيارتيْه الأخيرتين للبنان، مباشرة بعد تفجير المرفأ وفي ذكرى إعلان “لبنان الكبير”. رسالة إيران إلى فرنسا واضحة كلّ الوضوح. لم يعد لك مكان في لبنان… أمّا الجنود الفرنسيون العاملون في الجنوب في إطار القوّة الدوليّة، فليسوا سوى رهائن عند “الأهالي”، أي عند “حزب الله”.

نعم، لا شيء يحدث بالصدفة في لبنان بدءاً من قطع ميشال عون الطريق على أيّ تحقيق دولي في كارثة تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب 2020 بعد ساعات قليلة من التفجير. مطلوب أكثر من أيّ وقت، تجاهل الحقيقة وتفادي الوصول إليها منذ لحظة تفجير موكب رفيق الحريري إلى لحظة تفجير المرفأ. كان مطلوباً الوصول إلى ما وصل إليه لبنان في السنة 2022 التي ستكون سنة كلّ الاستحقاقات، بما في ذلك استحقاق الانتخابات النيابيّة.

في حال أُجريت الانتخابات، سيكون ذلك بموجب قانون سيسمح لـ”حزب الله” بالاحتفاظ بالأكثريّة النيابية، لكنّ “التيّار العوني” سيتلقّى ضربة قويّة وسينكشف مسيحيّاً. في حال أُجريت الانتخابات، علماً أنّ هناك من يشكّ في إجرائها، سيكون ذلك في غياب سعد الحريري مع كلّ ما في الحدث من رمزيّة مرتبطة بغياب أيّ دعم عربي للبنان وفقدان أيّ أمل بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة، بما في ذلك طيّ صفحة سلاح “حزب الله” وعدوانيّته لكلّ توجه عربي لدى لبنان.

يظلّ في ختام المطاف سؤال لا يمكن تفاديه: ماذا ستصنع “الجمهوريّة الإسلاميّة” بانتصارها على لبنان بعد إخضاعه؟ عملت طوال أربعين عاماً من أجل إفلاس لبنان وأخذه إلى البؤس. حصلت منذ العام 2006 على تغطية من الثنائي ميشال عون – جبران باسيل في ظلّ معادلة السلاح يحمي الفساد. ألغت المسيحيين الذين يبحثون عن مكان للهجرة. جعلت السُنّة في حال ضياع. دجّنت الدروز. لائحة ما فعلته، خصوصاً بعد الانطلاقة الثانية لمشروعها التوسّعي إثر سيطرتها على العراق في العام 2003،  طويلة، بل طويلة جدّاً. ولكن أين ستسوّق بضاعتها اللبنانيّة؟ وهل مَن يشتريها بعدما احتاجت إلى سبعة عشر عاماً للتأكّد من أنّ رفيق الحريري قُتِل فعلاً وأنّ شبحه زال من الوجود…

إقرأ أيضاً: 14 شباط 2022: الحريرية بلا الحريري؟

زال شبح رفيق الحريري وبقيت ذكرى رجل قاوم طويلاً قبل أن يسقط بالضربة القاضية. احتاجت “الجمهوريّة الإسلامية” في إيران إلى 17 عاماً كي تُسقط رفيق الحريري ويسقط معه لبنان وتسقط بيروت!

يبقى انّ كلّ ما نراه، بالنسبة إلى أكثريّة الشعب اللبناني ومن لا يزال يؤمن بلبنان، أمر مؤقّت، لا لشيء سوى لان مشروع رفيق الحريري، كما لبنان، لن يموت.

مواضيع ذات صلة

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…

كنّا نخاف منه وصرنا نخاف عليه

قبل عام 1969 كان العالم العربي والإسلامي يتدافع نحو أخذ صورة مع جمال عبدالناصر، ثمّ بعد العام نفسه صار العرب والمسلمون ومعهم عبدالناصر يتدافعون للوقوف…

دعاية “الحزب” الرّديئة: قصور على الرّمال

لا تكفي الحجج التي يسوقها “الحزب” عن الفارق بين جنوب الليطاني وشماله للتخفيف من آثار انتشار سلاحه على لبنان. سيل الحجج المتدفّق عبر تصريحات نوّاب…

معايير أميركا: ملاك في أوكرانيا.. شيطان في غزّة

تدور حرب ساخنة في كلّ من أوروبا (أوكرانيا)، والشرق الأوسط (غزة – لبنان). “بطل” الحرب الأولى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، و”بطل” الحرب الثانية رئيس الوزراء…