خطأ حسابات إيران… يحيي مسار التفاوض العُمانيّ؟

مدة القراءة 8 د


بلغت تعقيدات الحرب الإسرائيلية على غزة خلال الأسبوع الجاري ذروة دفعت الطرفين المعنيَّين فعلاً بتوسّع هذه الحرب إقليمياً أو بضبطها، أي الولايات المتحدة الأميركية وإيران، إلى العودة باتجاه صيغ التهدئة وضبط جبهات المواجهة بالواسطة بينهما.

اتّسعت رقعة الاحتكاك والاشتباك بين الجانبين في شكل أنذر بانفلات الأمور من عقالها نحو توسّع الحرب، الذي لا يريده أيّ منهما. اكتشفت واشنطن وطهران أنّ اتّكال كلّ منهما على قرار الآخر بعدم توسيع الحرب في سياق تصعيد الضغوط المتبادلة، لا سيما عبر الأذرع المتعدّدة في حالة إيران، أو مباشرة، يحمل مخاطر الانجرار إلى ما يسعى كلّ منهما إلى تجنّبه.

خيبة كلّ من واشنطن وطهران

جرت موجة التصعيد الأخيرة التي بدأت بتهديد الحوثيين الملاحة الدولية في البحر الأحمر منذ منتصف شهر تشرين الثاني الماضي بحجّة نصرة غزة وطلب وقف الحرب الإسرائيلية عليها، وبتكثيف قصف الميليشيات العراقية على مواقع تموضع القوات الأميركية في العراق وسوريا، وتصعيد جبهة القتال بين إسرائيل والحزب في جنوب لبنان، تحت سقف المعادلة التقليدية في العلاقة الأميركية الإيرانية: المواجهة تحت سقف التفاوض.

بلغت تعقيدات الحرب الإسرائيلية على غزة خلال الأسبوع الجاري ذروة دفعت الطرفين المعنيَّين فعلاً بتوسّع هذه الحرب إقليمياً أو بضبطها، أي الولايات المتحدة الأميركية وإيران، إلى العودة باتجاه صيغ التهدئة وضبط جبهات المواجهة بالواسطة بينهما

إلا أنّ الردود الأميركية، ولو الموضعية، على ضربات الأذرع الإيرانية تزامنت مع تجميد التفاوض غير المباشر بين الجانبين في سلطنة عُمان نهاية الشهر الماضي (مع تفاهم على معاودتها لاحقاً) لأسباب عدّة:

– السبب المباشر كان عدم استعداد واشنطن للمضيّ قدماً في البحث عن صيغة لإحياء الاتفاق على النووي الإيراني.

– الخيبة الأميركية من السعي إلى خفض التوتّر في جبهتَي القتال في غزة وجنوب لبنان، اللتين يتقاسم المسؤولية عنهما تصميم رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتانياهو على استبعاد أيّ حلول مستقبلية لإنهاء الحرب.

– الخيبة الإيرانية من أنّ واشنطن خضعت للضغط الإسرائيلي وانسجمت مع تصعيد تل أبيب باغتيال نائب رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” صالح العاروري، ثمّ القيادي في الحزب وسام الطويل في لبنان، وتفجيرَي مدينة كرمان في إيران، والضربات الأميركية لحركة “النجباء” العراقية، وللميليشيات الموالية لها في سوريا…

– طموح إيران إلى استثمار حرب غزة لانتزاع الاعتراف الدولي بنفوذها الإقليمي، فطرحت الانسحاب الأميركي من العراق وسوريا، بدليل انضمام الحكومة العراقية إلى مطالب الميليشيات الموالية لإيران، بأن طرح رئيسها محمد شياع السوداني التفاوض على “انسحاب تدريجي” بحجّة أنّ وجود قوات التحالف الدولي في العراق للمساعدة في محاربة “داعش” قد حقّق غرضه بعد الإعلان عن هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية في بلاد الرافدين.

عودة إلى مسار عُمان التفاوضيّ؟

تنقسم قراءة مفاعيل التصعيد الذي شهده الإقليم إلى وجهتَي نظر واتجاهين للأحداث وفق بعض المراقبين المتابعين للمواقف الخارجية.

– الأولى تشير إلى أنّ موجة التصعيد الأخيرة بين الجانبين الأميركي والإيراني تتّجه إلى الانكفاء ولو المؤقّت، تحسّباً لأيّ انزلاق يوسّع الحرب المرفوضة من كليهما. لكن مع استمرار كلّ من الدولتين على موقفها في شأن العناوين الرئيسة في المنطقة، بما فيها الملفّ النووي الذي قال الرئيس الأميركي جو بايدن إنّه يأمل تجديد البحث فيه بعد ضمان الهدوء في المنطقة، ولا يشمل ذلك وقف النار في غزة لأنّ واشنطن على الرغم من خلافاتها مع الحكومة الإسرائيلية ترى أنّ أيّ وقف للنار حالياً من دون تصوّر لما بعد الحرب يضعف دور “حماس”، سيكون انتصاراً لها.

– الثانية تستند إلى معطيات عن اتفاق على أن تُستأنف المفاوضات في مسقط. وتشير مصادر دبلوماسية متّصلة بالمداولات الدبلوماسية التي جرت خلال الأسبوعين الماضيين إلى أنّ التفاوض بين الدولتين عبر القناة العُمانية أُعيد تفعيله.

إيران لم تكن تتوقّع أن تواجه واشنطن محاولتها فرض نفسها شرطياً في البحر الأحمر ومياه الخليج عبر الحوثيين، من خلال استصدار قرار عن مجلس الأمن وبناء تحالف دولي يغطّيان تدخّلها العسكري المباشر لقصف مواقع “أنصار الله” في اليمن

يذهب أصحاب وجهة النظر هذه إلى الحديث عن تجديد التوافق الأميركي الإيراني على ضبط المواجهات الحاصلة في الإقليم، وذلك بأن تطلب طهران من حلفائها، خصوصاً الحزب على جبهة جنوب لبنان، خفض مستوى المواجهات العسكرية، وأن تضغط واشنطن من جهتها على إسرائيل من أجل أن تخفض اندفاعتها في غزة وجبهة لبنان، خصوصاً أنّ إدارة بايدن على خلاف مع نتانياهو في شأن استمرار تل أبيب في العمليات العسكرية المكثّفة. هذا على الرغم من طلب وزير الخارجية أنتوني بلينكن الانتقال إلى مرحلة جديدة تؤدّي إلى تجنّب استهداف المدنيين.

لقد تصاعدت في واشنطن اللهجة الأميركية الانتقادية لإعاقة إسرائيل إيصال المساعدات الإنسانية، ولاستمرار قتل المدنيين. فرئيسة البعثة الأميركية في الأمم المتحدة انتقدت استمرار قتل 150 مدنياً كلّ يوم. ورجال الكونغرس الأميركي المؤيّدون لإسرائيل الذين أفشلوا مطالبة الديمقراطيين “التقدّميين” بتقييد إرسال الأسلحة لإسرائيل (مشروع قدّمه السيناتور بيرني ساندرز) باتوا يتحدّثون عن أنّ استمرار إسرائيل في قتل المدنيين يزيد من صعوبة إمداد تل أبيب بالسلاح (تصريح النائب الديمقراطي كريس مورفي).

حاجة طهران للتفاهم مع بايدن؟

في كلّ الأحوال بدا أنّ كلّاً من واشنطن وطهران تحتاج إلى وقفة (pause) بعد موجة التصعيد الأخيرة. وفي تقويم سريع لموقع إيران في معادلة الصراع تحت سقف التفاوض، فإنّها تحتاج إلى تجديد المحادثات مع الجانب الأميركي لتفضيلها إنهاء الخلاف على الملفّ النووي ورفع العقوبات عنها في ظلّ رئاسة بايدن، الذي اعتبر أنّ الانسحاب من الاتفاق النووي كان خاطئاً، مخافة أن ينجح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية. فهو الذي انسحب من الاتفاق وفرض العقوبات الاقتصادية والنفطية القاسية على طهران، وسيكون متشدّداً في حال تبوّأ الرئاسة مجدّداً مطلع العام المقبل.

على الرغم من القراءة التي تتحدّث عن تفوّق إيران بفعل احتفاظها بالمبادرة منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، عبر أذرعها، فإنّ بعض وقائع التصعيد التي ظهرت في الأسبوعين الماضيين أوجب عليها مراجعة حساباتها والحاجة إلى خيار التفاوض عبر القناة العُمانية، حسب اعتقاد أوساط دبلوماسية، وأسبابه هي الآتية:

حساب “البحر الأحمر” وقصف إربيل وباكستان

– إنّ إيران لم تكن تتوقّع أن تواجه واشنطن محاولتها فرض نفسها شرطياً في البحر الأحمر ومياه الخليج عبر الحوثيين، من خلال استصدار قرار عن مجلس الأمن وبناء تحالف دولي يغطّيان تدخّلها العسكري المباشر لقصف مواقع “أنصار الله” في اليمن.

إقرأ أيضاً: إيران تورّط أذرعها.. وتهرب من “المواجهة”

– إنّ ردّ إيران على التدخّل الأميركي المباشر في اليمن بأن قصف “حرس الثورة” إربيل في إقليم كردستان الذي يحتفظ بعلاقة وثيقة مع الإدارة الأميركية، خلق لها إرباكاً أخطأت في توقّعه. فقد اضطرّت الحكومة العراقية الحليفة لها إلى أن ترفض المسّ بسيادة العراق وتحتجّ على هذا العمل رسمياً. إذ إنّ فائض هيمنتها على السلطة العراقية حملها على تجاهل أنّ رئيس الجمهورية هو كردي، وأنّ الكرد أحد المكوّنات الرئيسة للدولة العراقية. وهو ما دفع وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين إلى اتّهام طهران بأنّها لا تخوض المعركة مع إسرائيل لحسابات معيّنة ولأنّ لديها قواعد اشتباك معها، فتنقلها إلى كردستان العراق… وزاد من سلبيات ذلك صدور إدانة واضحة للقصف من جامعة الدول العربية، التي اعتبرته انتهاكاً خطيراً. وقد مضى زمن لم يصدر أيّ موقف عربي سلبي حيال طهران، بعد اتفاق بكين بينها وبين المملكة العربية السعودية.

– قصف طهران لمنطقة بلوشستان في باكستان بحجّة ملاحقة حزب “العدل” الذي يتحرّك ضدّ السلطة المركزية الإيرانية في بلوشستان إيران، استدرج قصفاً مماثلاً من إسلام أباد بعمق 40 إلى 50 كيلومتراً داخل إيران. وهو ما يضع إيران في موقع حرج ضمن المواجهة مع دولة إسلامية كبرى على الرغم من أنّها لا تريد الصدام معها. ومع قول وزارة الخارجية الأميركية إنّها “لا تعتقد” أنّ التوتّر بين باكستان وإيران “مرتبط بأيّ شكل من الأشكال بالوضع في غزة”، وتأكيد الجانبين معالجة الأمور بالحوار، فإنّ قصف المسيّرات الإيرانية في الداخل الباكستاني جاء ردّاً على اتّهام “العدل” بالتورّط في تفجيرَي كرمان في إيران في 4 كانون الثاني، وهو ما يعتبره المراقبون أحد مظاهر المشهد الإقليمي الناجم عن تموضع طهران بفعل حرب غزة.

لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…