ساعات قليلة فصلت بين إعلان إيران تلقّيها عرض “الصفقة الكبرى” مع الولايات المتحدة واغتيال أعلى مسؤول عسكري في الحزب على الأرض اللبنانية منذ حرب تموز 2006، بل ربّما منذ ما قبل تحرير الجنوب عام 2000.
التفسير الشائع هو اختلاف الأجندات بين الإدارة الأميركية ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو. فالأميركيون يتحرّكون في كلّ اتجاه لتفادي تصعيد المواجهة إلى حرب إقليمية، فيما يريد نتانياهو الخروج من الانقسام الداخلي داخل حكومة الحرب وبين رئاسة الأركان والحكومة، وإعادة توحيد الجبهة الداخلية، فضلاً عن مواجهة الضغط الأميركي عليه للتحوّل “جدّياً” إلى مرحلة “منخفضة الوتيرة” في الحرب.
لكنّ هناك حبلاً يربط بين اغتيال القيادي في فرقة الرضوان وسام الطويل والضربات التي وجّهتها الولايات المتحدة لأذرعة إيران في ساحات أخرى، بدءاً من اغتيال القائد الكبير في الحرس الثوري الإيراني في سوريا رضى موسوي، مروراً بإغراق ثلاثة زوارق حربية للحوثيين في البحر الأحمر قبالة ميناء الحديدة، وصولاً إلى اغتيال القيادي في حركة النجباء العراقية أبي تقى السعيدي.
لذلك مهما يكن هدف نتانياهو من هذه العملية فإنّها قابلة للقولبة ضمن أجندة التحرّك الأميركي، دبلوماسياً وعسكرياً، في المنطقة.
تقود كلّ المعلومات المتاحة إلى الاستنتاج أنّ عملية “طوفان الأقصى” أتت مباغتة للحسابات الإيرانية والأميركية معاً
لا بدّ من الملاحظة أنّ كلّ الضربات العسكرية المذكورة آنفاً وقعت خلال الأسبوعين الأخيرين. وخلال هذه الفترة كانت واشنطن تعمل على تفعيل التحالف البحريّ الدولي لردع الحوثيين، لكن خلال هذه الفترة أيضاً كانت ترسل إلى طهران عرض “الصفقة الكبرى” العابرة للساحات، الذي كشف عنه السفير الإيراني في دمشق حسين أكبري في تصريح نادر.
قال أكبري إنّ طهران تلقّت العرض قبل عشرة أيام عبر دولة عربية، وإنّ ردّها كان بأنّ “قرار حلفائنا السياسي مستقلّ ولا نقرّر بدلاً عنهم”. وفي هذا تعبير عن استبدال شعار “تجزئة الساحات” بـ”وحدة الساحات” الذي لم يعد يؤدّي الغرض في هذه المرحلة.
ماذا يريد الأميركي؟
لنضع ما يريده نتانياهو جانباً، ونسأل ما الذي يريده الأميركيون؟
لم تتغيّر الاستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط قيد أنملة منذ اليوم الأول لانتخاب جو بايدن رئيساً للولايات المتحدة، فما تريده ليس إلا الاحتواء والتبريد في المنطقة، لتتفرّغ لمواجهة المخاطر الاستراتيجية الأكبر التي تمثّلها الصين وروسيا.
فحوى العرض الأميركي لإيران أنّ الوقت ضيّق لإبرام الصفقة فيما تدخل إدارة بايدن في سنتها الأخيرة، ومن يدري إن كان العجوز المشكوك في قدراته سيخوض الانتخابات المقبلة أم سيستجيب للمطالبات الكثيرة من داخل حزبه ويفسح المجال لمن هو أقدر على خوض المنافسة، خصوصاً إذا ما تمكّن دونالد ترامب من تجاوز العقبات القضائية والفوز بترشيح الحزب الجمهوري.
بايدن مستعجل إذن، ولم تعد تلائمه استراتيجية الإيرانيين التي تميل إلى ربط النزاع وإبرام الصفقات الجزئية، تحت ستار من العداء المعلن وتعبئة الجمهور الداخلي والمقاتلين في دول النفوذ لحروب الوكالة في الساحات التي تعتبرها طهران مفاتيح نفوذها الإقليمي.
صبرت إدارة بايدن طويلاً في المفاوضات النووية، وفاوضت بشكل حثيث لثمانية عشر شهراً إلى أن توصّلت إلى مسوّدة اتفاق سخيّ في صيف عام 2022، لكنّ الإيرانيين طووا العرض في جيبهم، ولم يمزّقوه ولم يقطّعوه. ولم تيأس إدارة بايدن، فخرجت من جولات التفاوض العلني إلى قنوات سرّية لتبرم الصفقات الجزئية على النحو الذي تحبّذه طهران، فكانت صفقة الإفراج عن خمس رهائن أميركيين مقابل الإفراج عن ستّة مليارات دولار من الأموال الإيرانية المجمّدة، ثمّ “اتفاق الظلّ” لتجميد مستويات تخصيب اليورانيوم مقابل غضّ الطرف عن تنفيذ العقوبات النفطية.
الطوفان باغت إيران وأميركا
تقود كلّ المعلومات المتاحة إلى الاستنتاج أنّ عملية “طوفان الأقصى” أتت مباغتة للحسابات الإيرانية والأميركية معاً. وقعت سياسة الاحتواء الأميركية في مأزق، ووقعت سياسة الصفقات الجزئية الإيرانية تحت الطاولة في اختبار جدّي، أقلّه لأنّها تتناقض جوهرياً مع الخطاب الجماهيري التعبوي لوحدة الساحات ووضوح “العدوّ المطلق”.
في الواقع العمليّ، وبعيداً عن انفلات الساحة الفلسطينية من دقّة الحسابات الإيرانية، فإنّ كلّ التحرّكات الأخرى لأذرعة إيران منذ 7 أكتوبر حتى اليوم لا تصبّ في خانة المواجهة الشاملة، بل في إدارة أوراق التفاوض مع الأميركيين. وأتى تصريح السفير الإيراني في دمشق ليعبّر عن تلقّي طهران العرض بجدّية، لكنّه لم يعبّر بالضرورة عن قرارها بالتحوّل من استراتيجية الصفقات الجزئية وربط النزاع إلى الصفقة الشاملة.
المختلف هذه المرّة أنّ العرض الأميركي يأتي مع عصا أميركية غليظة تهدّد لبنان بصورةٍ يراها الجميع في غزة. وما كان متاحاً من تمويل عربي مباشر لإعادة الإعمار في 2006 لا يبدو أنّه متاح في 2024. ففضلاً عن أنّ الدمار سيكون مشكلة الحزب وحده، ثمّة مشكلة تتعلّق بالوضع الداخلي، إذ إنّ الساحة المسيحية تحديداً لا تتيح لأيّ حليف للحزب تأييد حربٍ عنوانها الأساس مناصرة الفلسطينيين في غزة.
هذا السقف يحكم ردّ الحزب على اغتيال الطويل بالتأكيد، لكنّ الحزب يدرك في المقابل أنّ عدم الردّ سيكون إشارة ضعف تجعل السماء اللبنانية مباحة للمسيّرات الإسرائيلية. ولذلك فإنّ ضبط سقف الردّ يتطلّب ضمانات أميركية لا يمكن أن تتوافر إلا في إطار التفاوض الجاري بين واشنطن وطهران.
كانت استراتيجية إيران تقوم على “وحدة الساحات”، من حيث الاستخدام الاستراتيجي، و”تجزئة الصفقات”، فإذا بالمعروض عليها اليوم “وحدة الصفقة” و”تجزئة الساحات”.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وسؤال “اليوم التالي”: ما بين واشنطن وطهران؟
قد يتيح هذا العرض لطهران “تسييل” الكثير من استثماراتها في الأمن والعسكر، لكنّ مشكلتها هنا أنّها شيّدت بنيان نفوذها الإقليمي، على مدى أربعة عقود ونيّف، على أساس ربط النزاع مع الأميركيين، فلا هي حرب شاملة ولا هي صفقة شاملة. وليس من السهل عليها أن تتحوّل الآن إلى دولة طبيعية، لأنّه ما من دولة طبيعية تسيطر على أربع عواصم عبر “فاعلين من خارج نطاق الدولة”.
قد تكون الأسابيع المقبلة مفصلية في إظهار ما تريده إيران، وكيف تصرف استثمارها في ساحات الإقليم، وهي تدرك مخاطر الخوض في تغيير كبير لوجهها الإقليمي فيما هي على مشارف الانتقال من عهد إلى عهد.
لمتابعة الكاتب على تويتر: OAlladan@