هي الأقوى عسكريّاً والأهمّ تكنولوجيّاً والأوسع تحالفيّاً، وعن تفوّقها الاقتصادي… حدّث ولا حرج.
مع ذلك كلّه، يبدو مستغرباً أن يُطرح سؤال: هل هي دولة معاقة؟
في عددها الأخير قالت الصحيفة الأولى في إسرائيل، “يديعوت أحرونوت”، إنّ اثني عشر ألف عسكري من مختلف الرتب سُجّلوا كمعاقين دائمين على مستوى الإعاقة الجسدية، وهم ممّن شاركوا في الحرب الراهنة على غزة، مع امتداداتها في الضفة والجبهة الشمالية.
أمّا إذا وسّعنا الدائرة خارج النطاق العسكري، فإنّ الإعاقة على مستويات أخرى تبدو أضعافاً مضاعفة، ولا مغالاة حين يقال إنّها أصابت الدولة والمجتمع، وقد لا تستخدم كلمة إعاقة في هذا المجال، لذا دعونا نستعِض عنها “بالأضرار النفسية والمعنوية” التي هي الأعمق والأقوى تأثيراً على حياة إسرائيل من كلّ جوانبها.
كانت البداية صباح السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، حين ضرب زلزال “طوفان الأقصى” نفسية المجتمع كلّه، إذ انتقل القوم من حالة احتفالات بأحد أهمّ أيام اليهود، إلى حالة رعب وذهول ممّا حدث، وهو ما وضع الجميع في حالة مفاجئة من فقدان الثقة بالأيقونة الأولى للدولة وهي الجيش، فتزعزعت الثقة به وتبخّر الشعور بالأمان تحت حمايته.
في عددها الأخير قالت الصحيفة الأولى في إسرائيل، “يديعوت أحرونوت”، إنّ اثني عشر ألف عسكري من مختلف الرتب سُجّلوا كمعاقين دائمين على مستوى الإعاقة الجسدية، وهم ممّن شاركوا في الحرب الراهنة على غزة
الدخول البرّي المتسرّع
كانت الصدمة عميقة وقويّة استدعت علاجاً فوريّاً دفع صنّاع القرار إلى خوض مغامرة كبرى بفتح حرب شاملة على غزة، تطوّرت إلى دخول برّي متسرّع، راهن السياسيون والعسكر على أنّهم سينهونه في أيّام أو أسابيع ويعودون من غزّة ومعهم قادة حماس والجهاد أسرى، تاركين القطاع وراءهم جثّة هامدة، وفوق ذلك يحرّرون المحتجزين الذين فاق عديدهم وتنوّعهم عديد أسرى كلّ الحروب السابقة.
بعد صدمة السابع من أكتوبر التي شُبّهت بزلزال، جاءت سلسلة صدمات زادت وعمّقت الخلل النفسي على مستوى الجيش وباقي مكوّنات المجتمع، بفعل التعثّر غير المتوقّع للحملة العسكرية في إطارها البرّي، وبفعل تواصل هبوط الصواريخ على المدن والقرى التي إن لم تقتل وتدمّر تصيب من يسمعها بالهلع، وذلك مترافق مع وصول جثث القتلى من الضبّاط والجنود، وقوافل الجرحى التي تجاوز عديدها الآلاف وفق المصادر الإسرائيلية ذاتها.
يمكن أن يُقال إنّ القتلى والجرحى مهما بلغ عديدهم يمكن تجاوز الأمر بالقول: “هذه هي الحرب، ولا حرب بلا قتلى وجرحى”، إلا أنّ ما هو أعمق وأخطر هو استبداد حالة الانهيارات المعنوية، التي لا يوجد علاج لها، فمن هم داخل إسرائيل يخشون على أمنهم وحياتهم ومصالحهم، ومن هم خارجها لم يعودوا يرون فيها المكان الآمن الذي يلوذون به حين تقع مصيبة في وطنهم الأصلي.
وقد نشرت صحيفة “هآرتس” أمس الأوّل أنّ 1600 جندياً عانوا من أعراض الصدمات والتوتر بسبب مشاركتهم في الحرب، وأنّ الجيش اضطرّ لتسريح 90 منهم في الوقت الحالي.
نشرت صحيفة “هآرتس” أمس الأوّل أنّ 1600 جندياً عانوا من أعراض الصدمات والتوتر بسبب مشاركتهم في الحرب، وأنّ الجيش اضطرّ لتسريح 90 منهم في الوقت الحالي
كابوس الهجرة المعاكسة
لذا بدل أن تستقبل الدولة العبرية أفواج اليهود المقبلين إليها من جميع أنحاء العالم، وجدت نفسها تواجه ما تخشاه دائماً، وهو تصاعد الهجرة المعاكسة. وحتى لو وجدت الدولة العبرية علاجاً لهذه الظاهرة فمن أين تأتي بالعلاج الناجع لتدهور الوضع الاقتصادي حيث لا زراعة ولا صناعة ولا سياحة ولا بناء. ونظراً لتعمّق العداء والكراهية للفلسطينيين فقد تمّ الاستغناء عن العمّال الذين بلغ عديدهم مئات الآلاف من الضفة والقطاع، ويجري البحث عن بدلاء لهم من جميع أنحاء العالم، وهو ما يؤدّي إلى خسارات اقتصادية محقّقة في كلّ المجالات.
حتى لو وُجد حلّ لهذه المعضلة فمن أين يأتون بحلّ للحالة المزرية التي وصلت إليها الطبقة السياسية على مستوى صنّاع القرارات والمؤثّرين فيها.
في آخر اجتماع عُقد تحت عنوان “الاتفاق على سياسة موحّدة لليوم التالي الذي سيلي الحرب على غزة” جرت مشاجرة حادّة بين المجتمعين، وهم وزراء وجنرالات وقادة أحزاب، واضطرّ بنيامين نتانياهو إلى إنهاء الاجتماع بعدما بلغ الانفعال الجنوني مداه، وهو ما جعله يقول: “بهذا الوضع لا نستطيع قيادة الحرب”.
بوسعنا القول إنّه “على نفسه جنى نتانياهو وجنى على إسرائيل”، ففي اجتماع القرار وجد من يطالبه بإبادة الفلسطينيين وإعادة الاستيطان في غزة وتهجير من بقي من الفلسطينيين إلى أيّ مكان وفتح حرب شاملة على الجبهة الشمالية. وقد جرى تهديده بأنّه إذا لم يفعل ذلك كلّه فلن يبقى رئيساً للوزراء، ولأنّ الذين هدّدوه هم من حلفائه فلم يجد بدّاً من إنهاء الاجتماع، فتهديده بأن يغادر موقعه أخطر بالنسبة له من أيّ تهديد وجودي للدولة.
إقرأ أيضاً: العشائر و”الحمائل” ترفض عرضاًً إسرائيلياً لحكم غزّّة…
هذا هو حال إسرائيل الآن، وما يجعلها دولة معاقة بالفعل أنّ قوّتها المتفوّقة أضحت عبئاً عليها بفعل سوء استخدامها، ذلك أن صنّاع القرار في إسرائيل لا يرون الأمور إلا من منظار البندقية وفوهات المدافع وقذائف الطائرات التي مهما وُصفت بالذكية تظلّ غبيّة، إضافة إلى أنّ صناع القرارات في إسرائيل يشعرون بالتشجيع مهما بلغت الخسائر لأنّ في واشنطن من يغطّي كلّ شيء حتى الجنون.