“وائل الدحدوح” بين إسقاط الغرب للقانون… ومحكمة العدل

مدة القراءة 8 د


تختزل مأساة مراسل محطة “الجزيرة” الزميل وائل الدحدوح الذي خسر زوجته واثنين من أبنائه وحفيداً جرّاء القصف الإسرائيلي على غزة في تشرين الأول الماضي، ثمّ ابنه البكر الزميل أيضاً، حمزة، صباح أول من أمس الأحد، الجلجلة التي تعيشها غزة منذ السابع من الشهر نفسه.
تتزامن الواقعة مع التهيّؤ لاختبار قدرة العدالة الدولية على وضع حدّ للمجزرة، في ظل غياب مرجعية تضع حدّاً لتناسل الحروب.
الرجل الجبّار، الذي جرى إعلامه باستشهاد عائلته بينما كان يسرد على الهواء تقريراً عن أضرار القصف الإسرائيلي وعدد الضحايا، عاد إلى بثّ تقريره فور انتهائه من دفن زوجته وأفراد عائلته قبل أكثر من شهرين.

هناك ما هو أسوأ من الموت؟
أوّل من أمس بكى فوق جثمان ولده البكر حمزة، وقبّل يده مطوّلاً، وتقدّم مراسم دفنه وقال إنّه سيعود لأداء رسالة إطلاع الناس على الحقائق، على الرغم من مُصابه. وعاد مساءً ليبثّ رسالة مباشرة على الشاشة، بكلّ رباطة جأش، عن المجزرة التي ارتكبتها الطائرات الإسرائيلية في أحد أحياء القطاع وعن الاشتباكات بين المقاومة والجيش الإسرائيلي، وسط الاندهاش الصامت لزملائه في الاستوديو في الدوحة، ومعهم المشاهدون. وهو سبق أن نجا من القصف. صار عدد الصحافيين الذين قتلهم الجيش الإسرائيلي 109.
يواجه الغزّيون حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي ومآسي الحصار، منذ أكثر من 17 عاماً بقدر هائل من طاقة الاحتمال. باتوا يتصرّفون في مواجهة لامحدودية إجرام الآلة العسكرية على أنّ هناك ما هو أفظع من الموت. كأنّهم تصالحوا مع الموت.

باتت المؤسّسات الدولية المعنية بالسلام والمساواة تحتاج إلى استعادة الصدقية بعد تعطيلها بحكم موازين القوى

يقول الجرّاح البريطاني الفلسطيني الأصل، الدكتور غسان أبو ستّة، الذي عمل في مستشفى “المعمداني” ثمّ في مستشفى “الشفاء”، والذي عايش التدمير الممنهج للقطاع الصحّي، وإجرام القتل المتعمّد للأطفال واستهداف الطواقم الطبية، إنّ العقل الإسرائيلي كان يعتقد أن ليس هناك أسوأ من الموت في ممارسته “الإجرام الاستعراضي” للخلاص من أكبر عدد من الفلسطينيين. إلا أنّ هؤلاء باتوا يرون في “ذلّ التهجير” والمهانة التي يمثّلها على مرّ الأجيال، أكثر إيلاماً من فقدان الأرواح وأفراد العائلات. المطلوب اقتلاع الشعب الفلسطيني. فالغزّيون ينتقلون من منطقة غير آمنة إلى أخرى لا تلبث أن تلاحقهم الإبادة فيها. والهدف استهلاك قدرتهم على الصمود ليرحلوا.
هذا السيناريو الأسوأ ينتقل تدريجاً إلى الضفة الغربية، وقد يظهر بوضوح أكثر إذا وضعت الحرب أوزارها. ألم يعلن وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية مارتن غريفيث قبل ثلاثة أيام أنّ غزة “باتت مكاناً للموت واليأس وغير صالحة للسكن”… لأنّ المناطق التي طُلب من المدنيين الانتقال إليها حفاظاً على سلامتهم تتعرّض للقصف، والمجاعة وشيكة..؟
باتت معركة ثبات الفلسطينيين في الأرض تتقدّم على مواجهة الموت.

سقوط النظام والقانون الدوليَّين
هل هذا الواقع هو الذي يصنع سقوط معايير القانون الدولي ويكرّس ازدواجية المعايير، أم تغييب القانون الدولي هو الذي يسمح بحصول هذا القدر من التطهير العرقي تحت أعين العالم؟
يقول دبلوماسي مخضرم عمل في الأمم المتحدة إنّ أكثر الأضرار في السياسة ومقاييس التعاطي الدولي مع الأزمات هو سقوط النظام الدولي برمّته بفعل تعاطي الدول القادرة مع محنة غزة. ويرى آخر أنّ الأمم المتحدة، التي قال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن أول من أمس إنّ لها دوراً بعد الحرب في غزة على الصعيد الإنساني، تحوّلت إلى منبر للخطابات ليس أكثر، ولم تعد تقدّم الحلول.
في حالة فلسطين راعت الولايات المتحدة على الدوام رفض إسرائيل منذ تأسيسها أيّ دور للمنظمة الدولية في معالجة أيّ مرحلة من مراحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بالسياسة، بحجّة عدم فعّاليتها، في حين أنّ السبب هو الحؤول دون تطبيق القانون الدولي. أمّا أوروبا فالتحقت بالتفوّق الأميركي في إبعاد المنظمة الدولية.
بعد الحرب في أوكرانيا شُلّت الأمم المتحدة ومجلس الأمن. وفي حالة غزة بالذات ساهم التفويض الغربي الساحق لإسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى” في العبث بمعايير القانون الدولي. مسؤول الأمن والسياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل كان رفض في تشرين الثاني الماضي الإجابة عن سؤال حول ما إذا كان ما ترتكبه إسرائيل جريمة حرب بحجّة أنّه ليس محامياً، محيلاً السائل إلى التحقيق الذي ستجريه المحكمة الجنائية الدولية، لكنّه في المقابلة نفسها ردّ بالإيجاب حين سئل عمّا إذا ما قامت به “حماس” جريمة حرب، بحجّة قتلها مدنيين. ارتبك بوريل حين قال له مذيع “الجزيرة” إنّ هناك ازدواجية معايير لأنّه في السؤال عن ممارسات إسرائيل أجاب بأنّه ليس محامياً، فيما أعطى حكماً حيال ما قامت به “حماس”. وأوّل من أمس قال في بيروت: “يجب أن تكون هناك طريقة أخرى للقضاء على حماس، لا تؤدّي إلى مقتل هذا العدد الكبير من الأبرياء”. المسألة إذاً هي في خفض عدد المدنيين المقتولين لا في رفض مبدأ قتلهم.

باتت معركة ثبات الفلسطينيين في الأرض تتقدّم على مواجهة الموت

محكمة العدل الدوليّة ورمزيّة جنوب إفريقيا
باتت المؤسّسات الدولية المعنية بالسلام والمساواة تحتاج إلى استعادة الصدقية بعد تعطيلها بحكم موازين القوى. حتى الأمين العام أنطونيو غوتيريش لم يجرؤ على القول إنّ ما قامت به “حماس”لم يأتِ من فراغ، إلا بعدما أبلغه موظّفو الإغاثة بأنّهم يُقتلون من دون تحرّك منه (قتل 146 موظّف من “الأونروا” وحدها جرّاء قصف إسرائيل).
هل يساهم نظر محكمة العدل الدولية في لاهاي، أعلى هيئة قانونية دولية، التي تتصدّى للمرّة الأولى للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بناء على الدعوى التي تقدّمت بها دولة جنوب إفريقيا ضدّ إسرائيل بتهمة ارتكاب جرم الإبادة الجماعية، في إعادة شيء من الصدقية للقانون الدولي، وبالتالي تعيد بعض الضوابط للنظام العالمي؟ أهميّة طلب الادّعاء الذي تقدّمت به دولة جنوب إفريقيا في 28 كانون الأول الماضي تكمن في الآتي:
– المراجعات الدولية السابقة ضدّ إسرائيل كانت تحصل أمام المحكمة الجنائية الدولية، التي تختلف عن محكمة العدل لأنّها تنظر بجرائم محدّدة، بناء على الكثير من الدعاوى المقدّمة ضدّ إسرائيل، وآخرها من قبل عشرات المحامين من جنسيات عديدة، فيما تنظر محكمة العدل بالنزاعات بين الدول وبتأثيراتها العالمية… وبالتالي هي المرّة الأولى التي تواجه إسرائيل خصومة قضائية من هذا النوع.
– لطلب جنوب إفريقيا رمزية عالمية لأنّها دولة خرجت منذ زهاء ثلاثة عقود من نظام الأبارتهايد العنصري.

مسؤوليّة الإبادة الجماعيّة ووقف النار
طلب الدعوى الجنوب إفريقية وفق نصّها هو “لإثبات مسؤولية إسرائيل عن انتھاكات اتفاقية الإبادة الجماعية، ومساءلتھا مسؤولية كاملة بموجب القانون الدولي عن تلك الانتھاكات، واللجوء إلى ھذه المحكمة على الفور لضمان الحماية العاجلة والكاملة الممكنة للفلسطينيين في غزة الذين لا يزالون معرّضين لخطر جسيم وفوري من استمرار أعمال الإبادة الجماعية” لأنّھا “تھدف إلى تدمير جزء كبير من المجموعة القومية والعرقية والإثنية الفلسطينية”… وإصدار حكم بوقف النار والأعمال الحربية.
– نصّت مقدّمة الطلب على الآتي: “تدين جنوب إفريقيا إدانة قاطعة جميع انتھاكات القانون الدولي من جانب جميع الأطراف، بما في ذلك الاستھداف المباشر للمدنيين الإسرائيليين وغيرھم من المواطنين وأخذ الرھائن من جانب “حماس” وغيرھا من الجماعات الفلسطينية المسلّحة. غير أنّه لا يمكن لأيّ ھجوم مسلّح على إقليم دولة ما مھما كانت خطورته، حتى لو كان ھجوماً ينطوي على جرائم فظيعة، أن يوفّر أيّ مبرّر ممكن أو دفاع عن انتھاكات اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليھا”. ورأت أنّ هذه الإبادة جماعية.

إقرأ أيضاً: الاغتيالات جزء من خطّة أميركا لتغيير “مشهد” الحرب

– نصّ الطلب على أنّه “في ضوء الإلحاح غير العاديّ للحالة، تلتمس جنوب إفريقيا عقد جلسة استماع عاجلة لطلبھا الإشارة بتدابير تحفّظية”. وبناء عليه تعقد هيئة محكمة العدل المؤلّفة من 12 قاضياً انتخبوا في الجمعية العمومية للأمم المتحدة، والتي ترأسها حالياً قاضية أميركية، جلسة بعد غد الخميس ويوم الجمعة الذي يليه، للنظر وفق مبدأ “ظاهر الحال” القانوني بصلاحية البتّ بالطلب.
– إذا نازع الجانب الإسرائيلي كمدّعى عليه في صلاحية المحكمة، تبتّ بها من باب حفظ حقوق الأطراف المتنازعة وتنتقل إلى أساس النزاع، استناداً إلى مطالبة المدّعي بتدابير مستعجلة، بحيث يقتضي ذلك البتّ في الحكم خلال أسابيع.
– في 19 شباط المقبل ستنظر محكمة العدل في طلب من الجمعية العمومية للأمم المتحدة أن تدلي المحكمة برأيها في “النتائج القانونية للاحتلال الإسرائيلي في فلسطين على سائر الدول الأخرى. وستدلي 42 دولة بمرافعات في هذا الشأن. 

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…