أبعد من الهجرة السوريّة إلى لبنان

مدة القراءة 4 د


لم تعد قضية انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية تحتلّ سلّم الأولويات. تتقدّم عليها الآن قضية النزوح السوري إلى لبنان ومعها الحرب الواقعة في غزة. يستمرّ لبنان من دون رئيس، لكنّه يتلاشى مع استمرار الهجرة. يختلف اللبنانيون على مواصفات الرئيس وانتماءاته، وهذا أمر سياسي محلّي ضيّق. ولكنّهم يجمعون على مخاطر الهجرة على الهويّة لأنّ الأمر كيانيّ عامّ واسع.
يكفي أن يفهم اللبنانيون خطورة معاني ونتائج هذه الهجرة المتواصلة حتى يدركوا سخافة معاني ونتائج الدوران في الحلقة المفرغة حول انتخاب رئيس.

تدمير لبنان
إنّ مشروع إعادة النظر في خريطة الشرق الأوسط على قاعدة تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ يدخل مراحل متقدّمة في التحوّل من المشروع إلى الموضوع. المشروع آليّة انتقالية. أمّا الموضوع فهو صناعة هويّات استعدائية متقاتلة. الهجرة من سوريا هي وجه من وجوه هذا المشروع، وهي تجلٍّ من تجلّياته. والهجرة إلى لبنان هي الوجه الآخر لهذا التجلّي ولا تكتمل إلّا به ومعه. وبالنتيجة لن تبقى سوريا، سوريا التعدّد. ولن يبقى لبنان، لبنان الرسالة.

ما كان للهجرة إلى لبنان أن تأخذ هذه الأبعاد، أو أن تحصل في الأساس لو كانت سوريا بخير

ما كان للهجرة إلى لبنان أن تأخذ هذه الأبعاد، أو أن تحصل في الأساس لو كانت سوريا بخير. أصحاب مشروع تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ لا يريدون أن تكون بخير. فالـ “لا خير” في سوريا يعني تصدّع المجتمع السوري وتفقيره، ويعني تالياً هجرة إلى لبنان. وضربة الهجرة إلى لبنان، مع تعطيل انتخاب رئيس وعرقلة أيّ مبادرة لاستعادة العافية الوطنية، تعني اللالبنان.
تلقّى لبنان ضربات تدميرية أصابت مؤسّساته الماليّة والاقتصادية وصدّعت بنيته الاجتماعية والثقافية. وفي الوقت الذي يحاول فيه استرجاع وعيه واستجماع قواه من خلال انتخاب رئيس للجمهورية، تنهال عليه ضربة التهجير لتكون في نتائجها البعيدة المدى ضربةً قاضية.
من المحزن أن افتقار لبنان إلى قادة رؤيويّين يعرفون كيف يحوّلون المستحيل إلى ممكن، والممكن إلى واقع، لم يكن افتقاراً ذاتياً. كان وما يزال مقصوداً في حدّ ذاته لتمرير الفصل اللبناني من مشروع تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ. ذلك أنّه إذا سقط لبنان بين مخالب هذا المشروع، فلن تسلم منه أيّ دولة عربية أخرى.

مشروع بشير
في عام 1982 احتلّت إسرائيل لبنان لفرض تنفيذ هذا المشروع. اعتقدت أنّها وجدت في الشيخ بشير الجميّل ضالّتها المنشودة. كان المشروع يحرّض على إقامة دولة مسيحية فوق جزء من لبنان، وبعثرة بقايا الأجزاء لتتناتشها طوائف ومذاهب مختلفة، ولتكون مسرحاً لصراعات مذهبية وطائفية إلى ما لا نهاية، لكنّ بشير الجميّل رفع شعار العشرة آلاف وأربعمئة واثنين وخمسين كيلومتراً مربّعاً. بدّد الجميّل بإعلانه الحلم الإسرائيلي وأصاب إسرائيل بخيبة أمل شديدة. جرى اغتياله بعد ذلك بأدوات غير إسرائيلية. وربّما تكون خيبة الأمل تلك بداية إعادة النظر في جدوى استمرار احتلال الجنوب اللبناني.

من المحزن أن افتقار لبنان إلى قادة رؤيويّين يعرفون كيف يحوّلون المستحيل إلى ممكن، والممكن إلى واقع، لم يكن افتقاراً ذاتياً

لا تعني الانتكاسة الإسرائيلية الفشل بمعنى التخلّي عن المشروع. جرى الإلتفاف على الفشل من خلال أمرين أساسيَّين:
– الأمر الأوّل هو تفشيل لبنان الدولة. وقد نجحت في ذلك.
– الأمر الثاني هو تشويه علاقات لبنان مع إخوانه العرب. وقد نجحت في ذلك أيضاً.
يأتي تعطيل انتخاب رئيس جديد للدولة بمنزلة حبّة الكرز فوق قالب حلوى التفشيل والتشويه.
من هنا أهميّة وخطورة الهجرة السورية الانفلاشية إلى لبنان. فالوحدة التي استعصت على الاحتلال الإسرائيلي، تتعرّض الآن لهجرة غير قابلة للاستيعاب وغير مؤهّلة لأيّ شكل من أشكال الضبط أو الانضباط.
تحت مظلّة شعار حقوق الإنسان تلقّى هذا المشروع دعماً (ودفعاً) من قوى خارجية متورّطة عن علم أو عن جهل بمشروع تقسيم المقسّم وتجزئة المجزّأ الذي يستهدف المنطقة العربية كلّها.
يهدف المشروع إلى صناعة كيانات سياسية جديدة (طائفية ومذهبية وقومية مختلفة). والمدخل إلى ذلك يكون بتدمير الكيان الذي يتناقض بوجوده وبنجاحه مع هذا المشروع ومع أهدافه.

إقرأ أيضاً: لماذا تعطّلت عودة النازحين إلى سوريا؟

من أجل ذلك يتواصل تفشيل لبنان حتى تصل العملية إلى توجيه ضربة قاضية من خلال الهجرة. فهي ليست هجرة استيعابية لباحثين عن الأمن والعيش الكريم، لكنّها هجرة إلغائية لما بقي في لبنان من أمن ومن عيش كريم.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…