بدأت الريبة حول أهداف الحديث المبكر من قبل العواصم الغربية والإدارة الأميركية عمّا بعد حرب غزة، وعن دور السلطة الوطنية الفلسطينية في حكم غزة، واستبعاد “حماس” عن إدارة القطاع، تتسلّل إلى المشهد الفلسطيني الداخلي، وسط خشية من أن يقود ذلك إلى استعادة الانقسام الداخلي الحادّ، كأحد البدائل عن عدم تمكُّن إسرائيل من تحقيق نصر حاسم في الحرب الدائرة التي أراد قادة الدولة العبرية منها القضاء على “حماس”.
شهدت الأسابيع الماضية بروز بعض مظاهر تجدّد هذا الانقسام، إلى حدّ يتخوّف بعض المراقبين من أن تهدف الطروحات حول من يدير (يحكم) غزة، إلى إشعال التنافس وإذكاء التناقضات. يرى هؤلاء أنّ إيقاظ التناحر على السلطة يخفي نيّة تأجيج صراع فلسطيني داخلي، على الرغم من أنّ قيادة منظمة التحرير الفلسطينية أكّدت أنّها لن تدخل غزة على ظهر دبّابة إسرائيلية.
من هذه المظاهر ما صدر في أحد الفيديوهات قبل يومين من دعوة إلى التظاهر في الضفة الغربية ضدّ السلطة الفلسطينية والمطالبة بتغييرها. فهل تتحقّق خشية البعض من أن يكمن خلف الإصرار على تولّي السلطة الفلسطينية إدارة غزة، التخطيط لاقتتال فلسطيني داخلي؟
إشارات خجولة حول الحوار
بعض المواقف المعلنة لطرفَيْ الخلاف الفلسطيني الداخلي الرئيسيَّين، “فتح” و”حماس”، تتجنّب الحديث عن إدارة غزة تاركةً الأمر إلى ما بعد وقف النار، وتطلق إشارات خجولة حول حوار لترميم الوضع الداخلي:
– نائب رئيس “فتح” محمود العالول أكّد أنّ الأولوية لدى حركته هي لإيقاف شلّال الدم الفلسطيني النازف في قطاع غزة، ورأى أنّ السؤال حول من الذي يدير قطاع غزة بعد حركة حماس، هو سؤال عبثيّ يغطّي على سؤال أساسي وجوهري، وهو: ماذا بشأن فلسطين بعد توقّف الحرب على قطاع غزة؟ مستبعداً قدرة إسرائيل على القضاء على “حماس” كجزء من الشعب الفلسطيني.
– رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” إسماعيل هنية قال في بيانه الأخير مطلع الشهر الجاري: “منفتحون على نقاش أيّ أفكار أو مبادرات يمكن أن تفضي إلى إنهاء العدوان، وترتيب البيت الفلسطيني على مستوى الضفة والقطاع، وكلّ المؤسّسات الفلسطينية، وصولاً إلى المسار السياسي الذي يحقّق حقّ الشعب الفلسطيني في دولته المستقلّة، وعاصمتها القدس”. لكنّ تصريحات المسؤولين الحمساويّين تشدّد على إنهاء الحرب أوّلاً.
بعض المواقف المعلنة لطرفَيْ الخلاف الفلسطيني الداخلي الرئيسيَّين، “فتح” و”حماس”، تتجنّب الحديث عن إدارة غزة تاركةً الأمر إلى ما بعد وقف النار
تباينات الموقف الفلسطينيّ
في المقابل يمكن تسجيل الآتي:
– لا الحوار بين “فتح” و”حماس” حول التعاطي مع مجريات الحرب، استُؤنِف في شكل يرقى إلى مستوى استعادة القضية الفلسطينية مكانتها على الصعيد العالمي بفعل “طوفان الأقصى”، وهو ما يستوجب لملمة أطياف الحركة الوطنية الفلسطينية لتثمير ذلك لمصلحة حصول الفلسطينيين على حقوقهم. ولا التنسيق في شأن المفاوضات حول هدنة 24 تشرين الثاني الماضي وتبادل الأسرى والرهائن بدا وثيقاً بين “حماس” والسلطة الوطنية في رام الله.
– تكليف الرئيس الفلسطيني محمود عباس عضو قيادة “فتح” عزّام الأحمد باستئناف الاتصالات مع “حماس” واشتراطه التوصّل إلى اتفاق مكتوب نظراً إلى فشل الحوارات السابقة لم يلقيا تجاوباً عمليّاً من قادتها، على الرغم من تسريبات عن اتصالات بين الجانبين، لكن لم يحصل أيّ لقاء.
– إعلان أمين سرّ منظمة التحرير الفلسطينية حسين الشيخ قبل أيام أنّ “حماس أدارت ظهرها للإجماع على برنامج سياسي وآليّة نضالية واحدة، ونحن اليوم ندفع ثمناً كبيراً مقابل ذلك (…) ومنذ السابع من أكتوبر الماضي لا يوجد أيّ حوار أو اتصال بيننا”. ودعا الحركة إلى الاعتراف بالشرعية الدولية وببرنامج منظمة التحرير، وإلى أن تكون صندوقة الانتخابات هي الفيصل. وقال كلاماً عن محاسبة الحركة بعد انتهاء الحرب أثار انتقادات كثيرة وعاصفة ردود على مواقع التواصل الاجتماعي طاولت السلطة الفلسطينية.
– من جهة ثانية دعا أمين سرّ اللجنة المركزية في حركة “فتح” جبريل الرجوب الجزائر بعد اجتماع له مع الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون إلى العودة لاحتضان حوار مع “حماس” لإنهاء الانقسام الفلسطيني من أجل قيام الدولة الفلسطينية مجدّداً، معتبراً أنّ الكرة في ملعبها وملعب “حركة الجهاد الإسلامي”، تهيئة لإجراء انتخابات وطنية حرّة. وقال إنّ اقتراحه هذا يأتي باسم قيادة منظمة التحرير والرئيس عباس.
– من جهة “حماس” فإنّ التقارير عن خلافات قيادة الداخل (يحيى السنوار ومحمد الضيف…) مع قيادة الخارج تزداد وتيرتها، سواء في شأن المفاوضات حول وقف النار أو مع “فتح”.
يعكس كلّ ذلك التعارضات داخل كلّ فريق حول مسألة إنهاء الانقسام.
يتخوّف بعض المراقبين من أن تهدف الطروحات حول من يدير (يحكم) غزة، إلى إشعال التنافس وإذكاء التناقضات
بين القضاء على “حماس”… وتواصلها مع معارضي السلطة
مع أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو يكرّر أنّ الحرب طويلة، وبالتالي الانتقال إلى اليوم التالي بعيدٌ، كثرت التكهّنات حول التغييرات التي يشترطها الغرب في تركيبة السلطة الفلسطينية عبر ما يسمّى “الإصلاحات” فيها، وبرزت أسماء معروفة منذ الأسبوعين الأوّلين للحرب على القطاع، تارة على أنّها موضوع تقاطع غربي عربي فلسطيني وحمساوي، وأخرى على أنّها تفي بغرض واشنطن “تجديد السلطة”، وسط اقتناعها بأنّ قيادة الرئيس عباس لم تتمكّن من التعامل مع الواقع الفلسطيني الجديد… ومن هذه الأسماء:
– رئيس المبادرة الوطنية الفلسطينية الدكتور مصطفى البرغوتي، الذي سبق أن نافس أبا مازن في انتخابات الرئاسة عام 2005 وفاز في الانتخابات النيابية عام 2006 ويطالب بإصلاح منظمة التحرير وبانتخابات تشريعية جديدة.
– محمد دحلان القيادي الغزّيّ الذي فصله الرئيس عباس من “فتح” عام 2011 بعدما كان عضواً في لجنتها المركزية واتّهمه بالضلوع باغتيالات منها قتل الرئيس الراحل ياسر عرفات… ولدى دحلان المنفتح على “حماس” ويتزعّم حركة “الإصلاح الديمقراطي” في “فتح” والمقيم في أبو ظبي والقاهرة، مشروع لقيام مرحلة انتقالية يتولّى قيادتها تكنوقراط.
– مروان البرغوتي الخاضع للسجن بأحكام المؤبّد في إسرائيل منذ عام 2002، بعدما لعب دوراً بارزاً في الانتفاضة الثانية في الضفة الغربية بتكليف من ياسر عرفات. وهو اكتسب رمزية شعبية فجرى ترشيحه للانتخابات التشريعية التي تأجّلت عام 2021، فشكّل من السجن، مع زوجته فدوى والسفير السابق ناصر القدوة (ابن شقيقة عرفات)، لائحة منفصلة عن حركة “فتح”، وهو ما تسبّب بخلاف عباس معه وفصله من “فتح”.
مفاوضات الدوحة وتغيير السلطة
لـ”حماس” اتّصالات مع كلّ من هؤلاء وغيرهم، نظراً إلى تعويل قيادتها على تشكيل قوة جذب للجهات المستقلّة عن “فتح” أو المنشقّة عنها… وسط معطيات طرأت في الأيام الماضية:
– أوّلاً: المفاوضات التي جرت في الدوحة آخر الشهر الماضي بين رئيس “السي آي إي” وليام بيرنز ورئيس “الموساد” ديفيد برنياع ومدير المخابرات المصرية عباس كامل ورئيس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، حول إمكان تجديد الهدنة أو التوصّل إلى وقف النار واستكمال صفقة تبادل الرهائن الإسرائيليين بالسجناء الفلسطينيين، لم تقتصر على هذه العناوين بل امتدّت إلى مسألة إدارة غزة لاحقاً، ودور الحركة. وقد فشلت لأنّ “حماس” لم تحصل على ما تريده لجهة يدها العليا في القطاع بمعزل عن منظمة التحرير والسلطة. فالاعتقاد السائد لدى قوى فلسطينية مستقلّة عن “فتح” و”حماس” أنّ قادة الأخيرة ما زالوا على رغبتهم في التفرّد بالسلطة، نظراً إلى الدور الذي لعبته الحركة في “طوفان الأقصى”، والذي كسبت فيه شعبية فلسطينية واسعة.
إقرأ أيضاً: أيّ دور للسلطة في غزّة والقانون يحظرها في واشنطن؟
– ثانياً: نشر فيديو لملثّم تحدّث باسم “المقاومة الفلسطينية الشاملة في الضفة الغربية” يدعو فلسطينيّي الضفة الغربية إلى التظاهر والاعتصام يوم الجمعة المقبل ضدّ السلطة الفلسطينية والاحتلال “بهدف التغيير الشامل وتشكيل مجلس قيادة جديد مؤقّت… لأنّ السلطة الحالية باتت عبئاً”، ويطالب بأن يتولّى رئاسته الدكتور مصطفى البرغوثي، ريثما تجري انتخابات جديدة.
فهل تشكّل هذه الدعوة بداية مرحلة جديدة من الصراع الداخلي مع كلّ ما تحمله من مخاطر وصدامات؟
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@