بدأ الهبوط التدريجي للسيد بنيامين نتانياهو، قبل هذه الحرب التي يقودها على قطاع غزّة، حين لم تنفعه أغلبية الأصوات الثلاثة في الكنيست، ليواصل رحلته السلطوية لولاية جديدة.
مع أنّ الأصوات الثلاثة تعتبر في إسرائيل ضمانة لمواصلة الحكم بين دورتين انتخابيّتين، إلا أنّ انفجار الشارع في وجهه بفعل مجازفة التغيير القضائي وضع الرجل المطمئن إلى أغلبيّته في مهبّ الريح.
قبل الحرب الراهنة، ومع خسارته للشارع الإسرائيلي، خسر حظوته الدائمة في أميركا، ومُنع عنه “التعميد” في البيت الأبيض، وفي إسرائيل البيت الأبيض هو قبلة السياسيين ممّن يصلون إلى سدّة الحكم أو الساعين إليها.
لماذا يُحسد نتانياهو؟
يُحسد نتانياهو على صموده في المنطقة الحرجة لزعامته، بين الشارع الإسرائيلي والبيت الأبيض. وبفعل قدراته المشهودة على المراوغة، والمرور من المسارب الضيّقة، تمكّن من مواصلة السيطرة على ائتلافه داخل الحكومة والبرلمان، وهو ما حيّد خصومه في معركتهم الأساسية، أي الإطاحة به.
أوشكوا على التسليم بحتمية الانتظار سنتين كبيستين لعلّهم يتمكّنون منه في الانتخابات العامّة.
نجح نتانياهو في التقليل من تأثير إغلاق البيت الأبيض أمامه.
وأكثر أنصاره من القول إنّ زيارته واجتماعه مع بايدن قريبان، وبعضهم ذهب إلى الادّعاء بأنّ الدعوة وُضعت على أجندة الرئيس.
كان السابع من أكتوبر زلزالاً هزّ أساسات الدولة العبرية، وها نحن نرى مفاعيله على مستوى إسرائيل وفلسطين والإقليم والعالم
غير أنّه بدلاً عن ذلك حصل على حلٍّ وسط: أن يظلّ باب البيت الأبيض مغلقاً حتى إشعار آخر وأن يتمّ اللقاء المنشود مع الرئيس الأميركي في أحد فنادق نيويورك على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وشتّان ما بين القصر والفندق.
غير أنّ ما تخبّئه الأقدار من مفاجآت غير محسوبة ولا حتى في الخيال ظهر صبيحة السابع من أكتوبر (تشرين الأول) حين تمكّنت حماس من اقتحام حصون الدولة العبرية الجنوبية، واحتلال مستوطنات الغلاف، وإدارة معركة دموية أسفرت عن عدد كبير من القتلى وعدد أكبر من الجرحى مع أكبر عملية أسر لجنود وضباط إسرائيليين ومدنيين جرى اقتيادهم إلى غزّة في عزّ الظهيرة.
كان السابع من أكتوبر زلزالاً هزّ أساسات الدولة العبرية، وها نحن نرى مفاعيله على مستوى إسرائيل وفلسطين والإقليم والعالم.
هذا التطوّر الخطير حوّله نتانياهو إلى فرصة. فإذا بالممنوع من ولوج البيت الأبيض يأتيه سيّده ووراءه كبار زعماء الغرب. وبين عشيّة وضحاها، تأسّست غرفة قيادة ائتلافية ضمّت خصومه جلس على رأسها واتخذ القرارات المفصلية في الحرب وفي كلّ الفعّاليات المنبثقة عنها داخلياً وخارجياً.
مثلما رأى في الزلزال الكارثي فرصة، رآه خصومه كذلك، إذ توفّرت لزعمائهم منصّات قوية وفعّالة لتجديد سعيهم إلى الإطاحة به.
يتحدّث زعيم المعارضة يائير لابيد عن عملية جراحية لاستئصال نتانياهو اليوم قبل الغد، ولا داعي لانتظار الانتخابات المقبلة. وقطب المعارضة بيني غانتس يفضّل الإطاحة به لكن بسلاسة بعدما ضمن تفوّقه الكاسح عليه، وهو ما ذكّر بأمجاد حزب العمل الذي كان يحظى بأغلبية دائمة في الانتخابات، ذلك أنّ زلزال أكتوبر والطريقة الرصينة التي أدّى بها غانتس موقفه ودوره منحاه أربعين مقعداً وحرما نتانياهو ثمانية عشر، وهذا فارق لم يحدث مثله من قبل.
علامَ يراهن نتانياهو؟
لا يستسلم نتانياهو حتى لو كانت كلّ المؤشّرات تحتّم عليه ذلك. يقدّر هو المدمن على قراءة استطلاعات الرأي التي يتناولها مع قهوة الصباح أنّ هذا الهبوط المروّع في حالته لا يعادله إلا صورة نصر يتحقّق بفعل قيادته. لهذا أعلن أهدافاً عديدة وكثيرة لحربه، ومنح نفسه وقتاً مفتوحاً لإنجازها، وأضفى على قيادته شكليات ورمزيات تشبه شكليات ورمزيات زيلينسكي الأوكراني. تخلّى عن ربطات العنق واكتفى بقميص أسود يغطّيه واقٍ للرصاص مع كاميرا ترافقه في حلّه وترحاله.
إقرأ أيضاً: إسرائيل استثمار أميركيّ متعثّر ومحرج ومكلف
يطارد فرصته بكلّ ما تتطلّبه من سلوك ومظهر القائد المنقذ والمخلّص الذي صحّح خطأ جسيماً ارتُكب في عهده لعله يعدّل ميزانه، فإن لم يحظَ بأغلبية انتخابية فليحظَ بخاتمة “زاهرة” لعهوده الطويلة الأمد في قيادة إسرائيل.
يرى نتانياهو بأمّ عينيه مسار انحداره، ويرى كذلك صعوبة متزايدة في تحقيق الأهداف التي وعد بها، وفرصته التي يلاحقها بإلحاح ستواجه بالتأكيد حقائق ما بعد الحرب وأهمّها أنّ الإسرائيليين ملّوا منه، والأميركيين يرونه عبئاً، والعالم يريد غيره على رأس حكومة إسرائيل، وحاله كهذه لا فرص منطقية للنجاة منها.