كي لا تضيع دماء غزّة في بحر الدموع

مدة القراءة 6 د


غزة تفضح عجزنا، تعرّينا. عيون أطفالها تجعلنا نخجل من ضعفنا. رقعة صغيرة من الأرض، هزيلة بلا مقوّمات وبلا أسوار وبلا حماية وبلا معادلات ردع، تطوّقها النار والدمار وجنون الانتقام. لكنّها تظلّ متمسّكة بالأمل وتقاوم. ترفض الانكسار والإذعان. تصمد ولا ترفع الأعلام البيض. حصار طروادة كان أسطورة من صنع الخيال. لكنّ صمود أهل غزّة حكاية واقعية تُكتب بالدم الحيّ والأجساد الطرّية. لم يبخل أطفالها ونساؤها والشيوخ بالدم والأرواح. جعلوا بتضحيّاتهم تاريخها المجبول بالشهادة، تاريخ أمّة.

صمودها الاستثنائي والمكلف يزيد الإسرائيليين حقداً ويفضح زيفهم وعنصريّتهم. لم تعد أمنيتهم بأن يبتلع البحر غزّة، سرّاً مكبوتاً في ذواتهم. صارت تصريحات رنّانة يجهرون بها من أعلى المنابر. لم يكتم وزير منهم ما يتمنّاه معظمهم بأن يباد القطاع بالقنبلة النووية. ولم يتوانَ آخر عن وصفهم بـ”الحيوانات”. وفاق جيشهم كلّ برابرة التاريخ بالتوحّش والإبادة. وكلّما زاد التوحّش انقلبت الصورة في العالم. إسرائيل لم تعد ضحية كما تصوّر نفسها بل صارت جلّاداً يجري التنديد بارتكاباته البشعة في شوارع نيويورك وباريس ولندن والعواصم العالمية. هذه الشوارع نفسها أظهرت بعد “طوفان الأقصى” والموجة الدعائية الإسرائيلية الموجّهة، تعاطفاً عارماً مع إسرائيل وإدانة غير مسبوقة للفلسطينيين وخصوصاً لـ”حماس” التي شُبّهت بـ”داعش” وشُبّهت عمليّتها بهجمات 11 أيلول.

غزة تفضح عجزنا، تعرّينا. عيون أطفالها تجعلنا نخجل من ضعفنا. رقعة صغيرة من الأرض، هزيلة بلا مقوّمات وبلا أسوار وبلا حماية وبلا معادلات ردع، تطوّقها النار والدمار وجنون الانتقام

خسائر إسرائيل أمام الرأي العام العالمي

إسرائيل تمارس لذّتها بالقتل والانتقام. وكلّما حقّقت أرقاماً قياسية في ارتكاب المجازر وهدر الدم الفلسطيني، وانتشرت صور مآسي العدوان، خسرت نقاطاً في معركتها أمام الرأي العام العالمي لتبرير عدوانها، واتّسعت حركة المقاطعة للداعمين لها، وارتفعت حدّة المطالبة الدولية بمحاكمة قادتها المسؤولين عن الجرائم والارتكابات.

أكثر ما يقلق واشنطن وتل أبيب، هو الصورة الدولية لإسرائيل. الاثنتان لا تقبلان أيّ مسّ بها أو أيّ إدانة من مؤسّسات أممية أو عالمية تحظى بالثقة والصدقية. وكلّما استمرّ تدفّق نهر الدم وحرمان الفلسطينيين من الماء والدواء والغذاء زاد الاشتباك الأممي الإسرائيلي، وتوسّعت لائحة المغضوب عليهم من الكيان بدءاً من الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش وصولاً إلى قادة كولومبيا وبوليفيا اللتين طردتا سفيرَيها.

دخل نتانياهو الحرب من دون أيّ خطط لليوم التالي سوى الانتقام واستعادة الهيبة التي لن تستعاد إلا بالدمار الشامل، وحينها يتوّج حلمه بأن يكون ملكاً، ليس لإسرائيل بل للجلّادين، لذا تتّسع فرصه لارتكاب المزيد من الأخطاء وحصد المزيد من الإدانات وتشويه الصورة.

يبقى هذا التحوّل في الرأي العامّ العالمي ظرفياً وآنياً إذا لم يُرفق بعمل دؤوب لتثميره وتوظيفه في خدمة القضية الفلسطينية التي تحظى أكثر من أيّ يوم مضى بفرصة استثنائية كي تعود إلى مكانتها المركزية والمحورية في الصراع الكبير على المنطقة.

كيف نوظّف هذا التقدّم؟

كي لا تضيع دماء أهل غزّة في بحر البكاء والدموع المذروفة على أطفالها، ثمّة لحظة يجب ألّا تُفوّت من أجل تفعيل الحضور الفلسطيني في الخارج لخلق حالة من التعاطف مع فلسطين وقضيّتها مبنيّة على طرحٍ منطقي سليم وفق منهج علمي وسياسي لمواجهة البروباغاندا الصهيونية القائمة على دعاية كاذبة تجعل من اللاجئين الفعليين أصحاب الأرض ومن أصحاب الأرض لاجئين محرومين من حقّ العودة إلى ديارهم.

ثمّة الكثير من الشخصيات الفلسطينية التي حقّقت النجاح في الداخل وعلى مساحة القارّات الخمس، وتحظى بالاحترام والصدقية على المستويات الوطنية والعالمية، ولا تشكّل حساسية خاصة لأيّ من الأطياف والتنوّع الفلسطيني الديني والسياسي والأيديولوجي، وتتمتّع بعلاقات واسعة وندّية مع المنظمات الدولية والإقليمية والمؤسّسات الاقتصادية والإعلامية والبحثية والقانونية والجامعات المرموقة والشركات الكبرى صاحبة التأثير، والمنتديات الدينية والثقافية الفاعلة في العالم.

دخل نتانياهو الحرب من دون أيّ خطط لليوم التالي سوى الانتقام واستعادة الهيبة التي لن تستعاد إلا بالدمار الشامل، وحينها يتوّج حلمه بأن يكون ملكاً، ليس لإسرائيل بل للجلّادين، لذا تتّسع فرصه لارتكاب المزيد من الأخطاء وحصد المزيد من الإدانات وتشويه الصورة

من بين هؤلاء يمكن اختيار أو انتخاب أو اصطفاء مجموعة من الأسماء المشهود لها بوطنيّتها وشجاعتها وإخلاصها للقضية وأهليّتها وكفاءتها العالية في ميدانها والتي لا تمثّل إحراجاً لأيّ طرف فلسطيني وتُطعَّم بشخصيات عربية مماثلة ومن أحرار العالم، تسمّى مجلساً أو منتدى أو مجموعة ضغط تنبثق منها لجان متابعة واختصاص يتمتّع أفرادها بالصفات نفسها.

أربع خطوات ضرورية

ليس على هذه المجموعة التدخّل في الشأن الداخلي الفلسطيني الذي يجب أن يُترك للهيئات المنتخبة بالاقتراع الشعبي أو بأيّ صيغة سياسية قد يُتّفق عليها وطنياً بعد انتهاء الحرب، بل يتعيّن أن تنحصر مهمّتها:

– أوّلاً، بالعمل الدؤوب والمستمرّ والمنظّم مع المؤسسات المعنية والمحافل الفاعلة على تصحيح الصورة لدى الرأي العام، من أجل تغليب الحقيقة الفلسطينية على الرواية الصهيونية الملتبسة.

– ثانياً، التذكير الدائم بالسجلّ الحافل للارتكابات والجرائم الإسرائيلية وتوثيقها ومتابعتها وملاحقتها لدى المحاكم الدولية والمؤسسات الحقوقية والقانونية، وجعلها أرقاً دائماً وكابوساً للحكومات الإسرائيلية وكلّ الذين ساهموا في ارتكابها.

– ثالثاً، تفعيل حملة المقاطعة الدولية لدفع المتعاملين مع إسرائيل إلى إجراء ألف حساب قبل مواصلة هذا التعامل.

– رابعاً، توفير الدعم المادّي لهذا العمل الكبير والمجدي من أجل الحفاظ على استقلاليّته وعدم إدخاله في المتاهات السياسية ومنع توظيفه من أجل غايات لا تمتّ بفلسطين وقضيّتها بصلة.

إقرأ أيضاً: ساترفيلد لـ”أساس”: حماس وإسرائيل خارج غزّة بنهاية الحرب

لقد نجح اللوبي الأرمني بإمكانات بسيطة لكن باستراتيجيات وتكتيكات ذكية ومدروسة في جعل ما يصفه بـ”الإبادة الأرمنية” قضية حيّة وسيفاً ثقيلاً على رقبة الحكومات والدبلوماسية التركية، وفي دفع البرلمانات الغربية إلى الاعتراف بهذه الإبادة مع ما يترتّب عليها من أحمال ثقيلة على أنقرة، علماً أنّ عمليات الإبادة الإسرائيلية في فلسطين فاقت بكثير ما تعرّض له الأرمن مطلع القرن الماضي، وأنّ لدى الفلسطينيين قدرات كبيرة وانتشاراً واسعاً يضاهي نظيره الأرمني.

ثمّة فرصة يجب ألا تضيع كما ضاعت سابقاتها. لأطفال غزة دين كبير علينا وعلى فلسطين ويجب ألّا يضيع.

مواضيع ذات صلة

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…

حماس وأزمة المكان

كانت غزة قبل الانقلاب وبعده، وقبل الحرب مكاناً نموذجياً لحركة حماس. كان يكفي أي قائد من قادتها اتصال هاتفي مع المخابرات المصرية لتنسيق دخوله أو…