يشير مقياس تدحرج الأحداث ساعة بساعة، الذي بات القاعدة التي على أساسها تراقب الدول ووسائل الإعلام الدولية والإقليمية مجريات الأمور في غزّة والمنطقة، لا سيما بعد إعلان الجيش الإسرائيلي بدء الهجوم البري على غزّة، إلى أن لا مفاوضات سياسية جدّية حول الحلول المطلوبة للحرب القائمة، وأنّ اتصالات الأيام الماضية انحصرت بالجانب الإنساني الذي يتلخّص بإدخال بضع مساعدات للقطاع عبر معبر رفح، وبالإفراج عن رهائن وأسرى لدى “حماس” وإسرائيل، الذي يتعثّر بين ساعة وأخرى.
وبموازاة ذلك، وعلى الرّغم من التفوّق الأميركي الساحق في إدارة الحرب التي انطلقت من غزّة، فإن تعقيدات مُجرياتها تُتيح لدول أن تعود مؤثّرة في الساحة مثل روسيا، مع أنها منغمسة في حربها في أوكرانيا. فموسكو تبذل جهوداً لا تقلّ أهمية عن جهود أميركا للحؤول دون توسّع الحرب.
من “محو حماس” إلى “إضعافها”
أجرت إسرائيل اختبارات عسكرية لاقتحام قطاع غزّة، في الأيام الماضية مع إقرار الدول الغربية بصعوبة ذلك، لا سيّما بغياب أيّ أُفق سياسي. تهتمّ أكثر الدول دعماً للدولة العبرية مثل أميركا بالحصول على أجوبة عنه لم تأتِ بعد: ماذا بعد ضرب “حماس” في غزّة واجتياح القطاع؟
المراقبة ساعة بساعة، بدلاً من يوم بيوم، تُفضي إلى تقلّبات وتغييرات في الخطط والتوجّهات:
1- بدأ الحديث عن “محو حماس” والقضاء عليها واستئصالها، وانتقل إلى تجريدها من القوة العسكرية، ثم إلى إضعاف قدراتها واغتيال قادتها وتدمير الأنفاق، ثم بات الشعار: “الحدّ من قدرة حماس على الإيذاء”.
2- بدأت الخطط العسكرية في تحديد هدف اجتياح غزّة، ثم انتقل إلى انتظار اكتمال الجسر الجوّي التسليحي الأميركي لإسرائيل، غير المسبوق في تاريخ المساعدات الحربية الأميركية للدولة الحليفة.
3- اقتصرت الخطوات العسكرية الإسرائيلية، في الساعات التي سبقت الهجوم البرّي أمس على “توغلات”، ما يفسر إجماع التوقعات الدولية والإقليمية على أنّ “الحرب طويلة”.
4- عاد خيار اقتحام غزّة إلى الواجهة مع بدء هجوم الجيش الإسرائيلي عليها أمس. ويرجح مقرّبون أن يكون حصل ذلك بعدما اكتمل الجسر الجوي التسليحي الذي أقامته أميركا لتمكين إسرائيل من مواجهة ردّة الفعل على هذا الهجوم، لا سيما من زاوية القدرة على اعتراض الصواريخ نحو العمق الإسرائيلي.
يُصنّف المصدر الدبلوماسي العربي مطلب وقف النار على الرّغم من الإلحاح الأممي والعربي عليه بأنه أمر سابق لأوانه لأنه يجب أن يقترن بترتيبات أمنية، بدءاً بتبادل الأسرى
معالجة “المفاعيل العميقة” والعامل السيكولوجي
يشترك دبلوماسي عربي مخضرم معنيّ بمتابعة توالد الأحداث بعد 7 تشرين الأول مع الاستنتاجات القائلة إنّ الأهداف العسكرية والسياسية لتلك الحرب التي اندلعت فجأة بأنّ الأمور تتغيّر ساعة بساعة، وأنّه حتى الدول الكبرى بما فيها أميركا تُعدّل من خططها لما بعد الضربة التي وجّهتها حماس لأمن إسرائيل. ويقول الدبلوماسي العربي إنّ الطموحات الغربية والإسرائيلية بدأت بغزّة منزوعة السلاح، وبات الحديث عن الحدّ من قدرة “حماس” على الإيذاء. وفي وقت يرى دبلوماسي غربي أنه قبل أن تتمّ معالجة المفاعيل العميقة لتلك الضربة على إسرائيل، لا يبدو أنّ البحث بالحلول السياسية متاح. أي أنّ المجتمع الدولي ينتظر أن تنتقم إسرائيل ممّا أصابها قبل أن يفكّر جدّياً في الحلول السياسية، فيما يعتقد الدبلوماسي العربي أنّ هناك عاملاً نفسيّاً شديد التأثير في هذه الحرب. فبالإضافة إلى الصدمة النفسيّة عند الإسرائيليين يتمّ استخدام سلاح الحرب النفسية في الميدان العسكري الممتدّ على مساحة الشرق الأوسط، من أجل ردع أذرع إيران الإقليمية عن توسيع المواجهة إقليمياً. وفي هذا السياق، يمكن تصنيف التهديدات الأميركية لإيران، وبروفات الأخيرة باستخدام أذرعها في استهداف الحشد الأميركي…
ولذلك، يُصنّف المصدر الدبلوماسي العربي مطلب وقف النار على الرّغم من الإلحاح الأممي والعربي عليه بأنه أمر سابق لأوانه لأنه يجب أن يقترن بترتيبات أمنية، بدءاً بتبادل الأسرى. لكنّ القناعة السائدة حتى الآن أن لا رغبة حقيقية بوقف النار لدى أيٍّ من اللاعبين الغربيين وإسرائيل، باستثناء موافقة فرنسا على مشروع قرار برازيلي في هذا الشأن في مجلس الأمن.
لافروف و”صعوبة” حلّ الدولتين
في هذا الخضم والغموض لا بدّ من تسجيل دخول روسيا على خطّ الاتصالات في شأن حرب غزّة. ولفت في هذا المجال قول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف قبل ثلاثة أيام في حديث صحفي إنّ “الدخول في مفاوضات مباشرة حول قيام دولتي فلسطين وإسرائيل أصبح الآن بعيد المنال…وصعب في الوقت الحاضر”. هذا على الرغم من أنّ لافروف نفسه كان قال بُعَيد اندلاع المواجهة العسكرية، وفي الأسبوع الأول منها إنّ المسؤولية تقتضي تنفيذ قرارات مجلس الأمن والعمل من أجل حلّ الدولتين.
ورأى لافروف أنّه “إذا تمّ تدمير قطاع غزّة وطرد مليوني إنسان منه، كما تروّج لذلك بعض الشخصيات السياسية في إسرائيل وخارجها، فإنّ ذلك سيخلق كارثة لعقود وعقود، إن لم يكن لقرون”.
لكن البارز في كلامه قوله إنّ “علينا التحرك على قاعدة القدرة المشتركة لدول المنطقة والاتحاد الأوروبي، وربما الولايات المتحدة، فمن الصعوبة الاستغناء عنهم”. وإذ دعا لافروف إلى “إطلاق برامج إنسانية لإنقاذ سكان غزّة”، فإن إشارته إلى التحرّك مع دول الغرب، تطرح السؤال عما إذا كانت موسكو تتحيّن فرصة صعوبات مفترضة يمكن أن تواجهها هذه الدول في أوكرانيا بعد حرب غزّة، نظراً إلى تركيزها على نصرة إسرائيل على حساب مساعدات تقدّمها لكييف، وهو أمر تراقبه القيادة الروسية عن قرب، بعد تصريحات في الكونغرس الأميركي تعطي الأولوية لمساعدة إسرائيل مقابل التدقيق في صرف الأموال لأوكرانيا.
عاد خيار اقتحام غزّة إلى الواجهة مع بدء هجوم الجيش الإسرائيلي عليها أمس. ويرجح مقرّبون أن يكون حصل ذلك بعدما اكتمل الجسر الجوي التسليحي الذي أقامته أميركا لتمكين إسرائيل من مواجهة ردّة الفعل على هذا الهجوم
الأفضلية لروسيا في الأسرى؟
موسكو مثل سائر العواصم الغربية تدخل الميدان السياسي من خلال:
– قضية الأسرى الذين بينهم إسرائيليون من أصل روسي، طرح قضيتهم نائب وزير الخارجية ميخائيل بوغدانوف أثناء زيارته في الأسبوع الأول للحرب إلى الدوحة ولقائه المسؤولين القطريين الذين يتولّون الوساطة في هذا الصدد، إضافة إلى اجتماعه مع قادة “حماس” في العاصمة القطرية. والمتصلون بموسكو يؤكدون حصولها على جواب ضمنيّ وعلنيّ من “حماس” بأنّ الأفضلية في إخلاء هؤلاء هي “لحلفائنا”، وأنّه يجري التدقيق في أسماء هؤلاء الأسرى والتفتيش عن أمكنة وجودهم.
– أنّ بوغدانوف اجتمع إلى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في الدوحة من أجل قضية الأسرى ومن أجل الحثّ على عدم توسيع الحرب. ثم عاد لافروف وأثار الأمر أثناء زيارته طهران الأسبوع الماضي
– القيادة الروسية، تحت عنوان الأسرى، دعت قيادة “حماس” إلى موسكو في رسالة سياسية مقصودة إلى الغرب بأنها لا تعتبر الحركة تنظيماً إرهابياً، في ظلّ قناعتها بازدواجية المعايير الغربية. وهو ما سبّب حملة إسرائيلية على روسيا. كذلك دعت نائب وزير الخارجية الإيراني محمد باقري كني، الذي التقى وفد “حماس”، في خطوة تؤكّد قدرتها على احتضان الجانبين.
إقرأ أيضاً: إسرائيل وإيران أمام مأزق الخيارات الصعبة
خشية روسية من التورّط بتوسيع الحرب؟
إلا أنّ المتصلين بالقيادة الروسية يشدّدون على دورها في تفادي توسيع الحرب وانضمام الجبهة اللبنانية إليها من خلال “الحزب”، أو عبر اندفاعة عسكرية إسرائيلية. (سبق للسفارة الروسية في بيروت أن نقلت تحذيرات من ذلك إلى المعنيين سواء في الحزب أو على المستوى الرسمي).
يشير هؤلاء إلى أنّ هاجس موسكو بتجنّب فتح جبهة لبنان مصدره الآتي:
أولاً: خوفها من أن تتدحرج الأمور في شكل تتورّط فيه الجبهة السورية في أيّ قتال محتمل في وقت أنّ لها قوات منتشرة في بلاد الشام، قد تتعرّض لاحتمال الإصابة ويتمّ جرّها إلى اشتباك أو مواجهة.
ثانياً: فتح جبهة لبنان قد يجرّ إلى حرب إقليمية ستُجبر موسكو بدورها على الانخراط فيها، وهي لا ترغب في ذلك في وقت تخوض فيه حرب أوكرانيا وتميل قيادتها إلى الاعتقاد أنّ تركيز الغرب على نصرة إسرائيل فرصة لروسيا كي تنتزع انتصاراً على كييف.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@