هل هي حرب التصفية أم التسوية؟ (3)

مدة القراءة 4 د


من المتّفق عليه أنّ تصفية القضية الفلسطينية أمر مستحيل، وقرائن ذلك أظهرتها وقائع قرن من الصراع غير المتكافىء القوى بين الإسرائيليين والفلسطينيين، كما أثبتت جميع الحروب والتسويات العربية الإسرائيلية.
أمّا ما هو غير متّفق عليه، حتى الآن، فهو أنّ استحالة التصفية تقود تلقائياً إلى التسوية، ولهذا ظهرت في أحقاب عديدة مصطلحات اللاحرب واللاسلم، وجمود المسار السياسي وغياب الأفق، وغيرها من المصطلحات التي تؤدّي إلى المعنى نفسه.

ساحة الاشتعال
المرحلة الراهنة يؤرَّخ لها بحروب جبهة الجنوب اللبناني والشمال وحروب غزّة والضفّة، وما يوصف عادة بانسداد أفق التسوية، خصوصاً بعد انهيار أوسلو، وعجز التطبيع المستجدّ عن أن يفتح أفقاً للتسوية عبر المفاوضات.
المرحلة الراهنة شهدت تطوّرات ذات شأن أعادت إلى الصورة الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في ذروة اشتعاله، بموازاة عودة الصراع العربي الإسرائيلي، بعناوين ومضامين وآليّات مختلفة مثل احتمالات فتح الجبهة الشمالية، وهو ما يؤدّي إلى حرب إقليمية، وإن لم تشتعل بصورة شاملة فهي مشتعلة بالتهديد. أمّا على صعيد الدول المطبّعة مع إسرائيل، فقد فُرض على أهمّهما في هذا المجال مصر والأردن تهديد وجودي من خلال التهجير الجماعي، الذي لا يغيّر الخرائط فقط، بل يغيّر المجتمعات، والذي إن تمّ ولو بعض منه فلا يؤدّي إلى أزمة وحسب بل إلى حرب.

صار الشرق الأوسط العربي ساحة اشتعال ربّما هي الأقوى تأثيراً على العالم من أيّ حرب تجري على ساحة أخرى مثل أوكرانيا، ولهذا ازدحم البحر المتوسط بحاملات الطائرات الأميركية وتوابعها

صار الشرق الأوسط العربي ساحة اشتعال ربّما هي الأقوى تأثيراً على العالم من أيّ حرب تجري على ساحة أخرى مثل أوكرانيا، ولهذا ازدحم البحر المتوسط بحاملات الطائرات الأميركية وتوابعها. وما يميّز الشرق الأوسط أنّ فيه دولة واحدة هي عضو أساسي في الناتو، ونعني تركيا، وأمّا إسرائيل وإن لم تكن عضواً فتحظى بامتيازات أكثر من ذلك. وفي الشرق الأوسط أيضاً قضية قديمة تخبو لفترة ثمّ تشتعل من جديد، ولم يصدّقنا العالم “البراغماتي والسطحي” حين كنّا نقول إنّ القضية الفلسطينية إن ظلّت بلا حلّ فهي المفاعل الدائم لإنتاج الحروب، وهي أيضاً منتجة دوافع الاستقطاب المحلّي والإقليمي والدولي، الذي إن هدأ عسكرياً فلا يهدأ سياسياً وتعبوياً، وهو ما جعل المنطقة بأسرها زمن الربيع العربي الذي ما زالت مفاعيله قائمة أشبه بهشيم يشعله عود ثقاب.
استحالة تصفية القضية الفلسطينية وفشل كلّ محاولات التسوية لهما أسباب كثيرة. ففي أمر التصفية لا مجال لتحقيقها بوجود أكثر من خمسة عشر مليون فلسطيني بلا هويّة سياسية وبلا دولة. وفي أمر التسوية لعبت أميركا ومن يدور في فلكها الدور المركزي المباشر في عدم تحقيقها. فهي تواصل الإصرار على أن تظلّ عرّابة الجهد المبذول من أجلها، وفي الوقت نفسه تواصل رعاية الرفض الإسرائيلي لها، في أداء مزدوج الاتجاه لم يُنتج حتى الآن سوى سلسلة حروب لم تنجُ إسرائيل من دفع أثمانها.

صبّ الزيت على النّار
نحن الآن على عتبة الأسبوع الثالث لحرب غزّة، التي تسمّيها إسرائيل “السيوف الحديدية”، تأكيداً على اعتناق الدولة العبرية فعل السيف. ومن جهة أخرى، نحن حيال إعلانات أميركية تتحدّث عن أنّ حلّ الدولتين هو الوصفة الأكيدة لإخراج المنطقة من حالة الاضطراب والاشتعال الدائم، وما لا تدركه أميركا أنّ الإكثار من الحديث عن الحلول من دون السعي الحثيث والمخلص إلى بلوغها، ما هو إلا صبّ زيت على النار، وإعطاء القوّة الأميركية الناطقة باللغة العبرية مساحة حركة واسعة لمواصلة حروبها على الفلسطينيين ومن معهم، ذلك أنّ الفلسطينيين وكلّ العرب لم يعودوا قابلين لتداول عملة لا مفعول لها، مختوم عليها مصطلح “حلّ الدولتين”، الذي لن يتحقّق كما قال الرئيس بايدن ذات مرّة لا على المدى البعيد ولا الأبعد.

إقرأ أيضاً: هل هي حرب التصفية أم التسوية؟ (2)

والعرب جميعاً، المطبّعون والممتنعون، لا يقبلون أن تكون بلدانهم جزر تهجير فردي أو جماعي للشعب الفلسطيني، وهذا ما يتطلّب من أميركا استبدال كلمة الأبعد بالأقرب، فترف الوقت يجعل الصعبَ اليومَ مستحيلاً في الغد.
لقد اندمج العرب من جديد في الخطر الناجم عن الحرب، ويتعيّن عليهم أن يفعّلوا كلّ أوراق الضغط المتوافرة لديهم وهي كثيرة وثقيلة، ليس لإفناء أحد، وإنّما لإحقاق العدالة التي تساندها الشرعية الدولية وقراراتها. وبهذا يكون صعباً على أميركا أن تمسك الحقّ والباطل في قبضة واحدة.

مواضيع ذات صلة

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…