تترنّح سوريا بين الانعكاسات الاجتماعية المأساوية لأزمتها الاقتصادية المالية التي تزداد سوءاً يوماً بعد يوم، مع استمرار الاحتجاجات في الشارع، وبين التوقّعات باستئناف الصراع العسكري على أرضها في إطار المزيد من الشرذمة والتفتّت الجغرافي والمناطقي على خلفية ابتعاد الحلول للأزمة السياسية، والصراع الدولي الإقليمي على النفوذ في بلاد الشام.
يزيد استعصاء النظام برئاسة بشار الأسد على الحلول السياسية من تصلّب المواقف الخارجية المعادية للطاقم الحاكم، وهو ما يضاعف التعقيدات التي تواجه الوضع الاقتصادي المتردّي، ويقحم سوريا أكثر في أتون التنافس على النفوذ في المنطقة.
لجأ الأسد إلى الصين لمحاولة تأمين الدعم الاقتصادي في ظلّ تراجع المساعدات الروسية بفعل تكاليف الحرب في أوكرانيا، والإيرانية بسبب استمرار العقوبات على طهران. شكّل ذلك هروباً إلى الأمام، على الرغم من تشجيع موسكو انفتاح بكين اقتصادياً على سوريا وفق معادلة “روسيا تدعم النظام عسكرياً، والصين اقتصادياً”، لأنّها لا تلتزم العقوبات الأميركية على سوريا. وانعقد أمس في دمشق اجتماع “المجلس السوري الصيني“ المشترك، لكنّ البحث اقتصر على عنوان تعزيز الصادرات السورية إلى الصين، في وقت انخفض الإنتاج السوري للموادّ الزراعية أكثر من 50 في المئة، وهو ما رفع الأسعار في الداخل.
الأسد و”الغزوات” التاريخيّة لسوريا
من أحدث الشواهد ذات الدلالة على تراجع الآمال بالحلول السياسية يمكن ذكر الآتي:
أوّلاً: تصريحات الرئيس السوري، في حديثه إلى تلفزيون الصين المركزي الجمعة الماضي 29 أيلول، التي قال فيها:
– الحرب في بلاده “لم تنتهِ وسوريا ما تزال في قلب الحرب حالياً”.
– رأى أنّ “سوريا كموقع جغرافي منذ كُتِب التاريخ، ممرّ للغزوات، وكلّما كان يأتي محتلّ كان يدمّر المدن، فهذا هو تاريخ سوريا، لكن كان يُعاد بناؤها دائماً.
– أقرّ الأسد الباحث عن “مشاريع مشتركة ” مع الصين، بأنّ الوضع المعيشي للسوريين سيّئ حالياً، وأنّ المعاناة تزداد.
– أكّد أنّ الشعب السوري قادر على إعادة بناء بلده عندما تتوقّف الحرب وينتهي الحصار. واعتبر أنّه “لو أبعدنا التدخّل الخارجي، فإنّ المشكلة السورية التي تبدو معقّدة ليست كذلك. يمكن أن تُحلّ في أشهر قليلة لا سنوات”.
يزيد استعصاء النظام برئاسة بشار الأسد على الحلول السياسية من تصلّب المواقف الخارجية المعادية للطاقم الحاكم، وهو ما يضاعف التعقيدات التي تواجه الوضع الاقتصادي المتردّي، ويقحم سوريا أكثر في أتون التنافس على النفوذ في المنطقة
بهذه المواقف أسدل الأسد مجدّداً الستار على محاولات إطلاق الحلول السياسية التدريجية التي اقترحت الدول العربية الرئيسة في إطار الجامعة العربية، السير بها قبل وأثناء القمّة العربية في جدّة في 19 أيار الماضي، وبعدها. وفي وقت وعدت بعض هذه الدول، لا سيما الخليجية، القيادة السورية بالسعي لدى الإدارة الأميركية لخفض العقوبات، أو لغضّ النظر عن تطبيقها لتقديم مساعدات مالية لإعادة الإعمار، مقابل خطوات نحو الحلول السياسية والأمنيّة، فإنّ هذه الدول حصدت الخيبة من تنفيذ الوعود مقابل الانفتاح على الأسد قبل القمّة.
استمرار الإنكار وإجهاض وساطات مع المعارضة
لكنّ تصريحات الأسد تكرّس القناعة الدولية والعربية بأنّه في حالة إنكار للأزمة السياسية الاقتصادية وحاجة السوريين منذ ثورتهم عام 2011 إلى تغيير في النظام السياسي، فيلجأ إلى تغطيتها بالاكتفاء بردّها إلى التدخّل الخارجي الذي ساهم في استدراجه منذ البداية. وهو لا يخفي استخفافه بالتطبيع مع الدول العربية، ولا سيما الخليجية، إذ سبق أن قال لـ”سكاي نيوز” عربية في 9 آب الماضي، إنّ “العلاقات العربية العربية شكلية لا تطرح حلولاً عملية”. وقطع الطريق على محاولات تبذلها بعض العواصم العربية والأجنبية من أجل ترتيب مصالحة وطنية بين النظام والمعارضين له في الخارج، بالقول إنّه مستعدّ للتعاطي مع “المعارضة المصنّعة محلياً والتي لها قاعدة شعبية والنيّة الصادقة”… ويمتنع النظام حتى عن القبول بالتواصل مع المعارضين الذين تسعى موسكو إلى تشجيعهم على الحوار مع النظام.
استبعاد بيدرسون للحلول
ثانياً: تقويم الموفد الأممي إلى سوريا غير بيدرسون أثناء الإحاطة التي قدّمها إلى مجلس الأمن في 27 أيلول المنصرم:
– اعتبر أنّ “الحلّ الشامل للصراع السوري ما يزال بعيد المنال”، مشيراً إلى أنّ “انعدام الثقة وتباعد المواقف الجوهرية” بين النظام والمعارضة و”المناخ الدولي، كلّها عوامل تسهم في الجمود”.
– رأى أنّ “استمرار الاحتجاجات في محافظة السويداء لأكثر من شهر، شواهد جديدة للإحباط الشعبي في سوريا”.
يتراجع بيدرسون الذي يلومه كثر على اعتماده سياسة مهادنة مع النظام، بكلامه المتشائم هذا، عن إحاطته لمجلس الأمن في 30 أيار الماضي، حين سلّط الضوء على تسارع النشاط الدبلوماسي في سوريا مبشّراً بـ”خطوات إيجابية”.
وفي وقت يترقّب بعض المسؤولين العرب مآل دعوة بيدرسون لجنة مناقشة تعديل الدستور في عُمان قبل نهاية العام الحالي، تدور الشكوك حول إمكان انعقادها، وإذا انعقدت حول إمكان تقدّمها بعد فشل 8 جولات في تحقيق أيّ تقدّم في جنيف خلال السنتين الماضيتين.
يقول ناشطون سوريون لـ”أساس” إنّ المشروع الذي يحظى بتوقيع 48 سيناتوراً من الجمهوريين والديمقراطيين (يحتاج لـ51 صوتاً من أجل إقراره) قد يُحال إلى مجلس النواب للتصويت عليه، وإنّه قد يصبح ناجزاً آخر العام الحالي
اللوبي السوريّ المعارض في واشنطن
ثالثاً: رفع استمرار انتفاضة السويداء ودرعا التي تطوّرت شعاراتها من مطالب اجتماعية معيشية إلى الدعوة إلى إسقاط النظام، درجة الانخراط الأميركي بالتطوّرات في بلاد الشام، في مواجهة النفوذ الإيراني والدور الروسي، وتحالف الأسد معهما، وسط مؤشّرين:
– إعلان “التحالف الأميركي لأجل سورية” و”المجلس السوريّ الأميركي”، اللذين يشكّلان اللوبي السوري المعارض للنظام في واشنطن، عن إحراز تقدّم في لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي في مناقشة مشروع قانون “مناهضة التطبيع مع النظام السوري”، الذي كان تقدّم به السيناتور الجمهوري جيم ريش في 11 أيار الماضي، ثمّ ناقشته لجنة في مجلس النواب الأميركي ردّاً على أنباء توسّع المصالحات العربية مع الأسد قبيل عودة سوريا إلى مقعدها في الجامعة العربية. فالمسؤولون الأميركيون ومنهم وزير الخارجية أنتوني بلينكن حذّروا الدول العربية من المضيّ في المصالحة مع الرئيس الأسد، ما لم يحصل أيّ تطوّر في الحلّ السياسي للأزمة السورية. يستند المشروع في جوهره إلى قانون قيصر، الذي يفرض عقوبات على تعامل أيّ فرد أو جهة خاصة أو رسمية أو مؤسّسة، مالياً أو استثمارياً أو إعمارياً أو صناعياً أو تجارياً أو تكنولوجياً، مع حكومة النظام. ويشدّد القانون تلك العقوبات الموجودة في قانون “قيصر”، الذي بدأ تطبيقه في حزيران عام 2020، ويبقى ساري المفعول لعشر سنوات. و”قيصر” سبق أن حال دون تقديم مساعدات مالية من بعض الدول للنظام. واستُثنيت من العقوبات تلك التي قدّمتها الدول الغربية والعربية لتخفيف آلام السوريين الذين تأثّروا بالزلزال في 6 شباط الماضي.
يقول ناشطون سوريون لـ”أساس” إنّ المشروع الذي يحظى بتوقيع 48 سيناتوراً من الجمهوريين والديمقراطيين (يحتاج لـ51 صوتاً من أجل إقراره) قد يُحال إلى مجلس النواب للتصويت عليه، وإنّه قد يصبح ناجزاً آخر العام الحالي، فيصدر مع إقرار موازنة 2024. ويؤكّد السيناتور ريش أنّ هذا التشريع “يفرض العزلة الدبلوماسية والاقتصادية على نظام الأسد وداعميه، وسنواصل السعي إلى المساءلة عن جميع الفظائع”.
اعتبر أكثر من مراقب أنّ هذا القانون سيحول دون استكمال خطوات أيّ تطبيع عربي مع النظام، فيما ذكر قياديون سوريون أنّ التطبيع توقّف من دون صدور هذا القانون، نظراً إلى إخلال النظام بوعوده للدول الخليجية ولجنة الاتصال العربية المنبثقة عن الجامعة العربية بوقف تهريب الكبتاغون عبر الأردن وغيره والبدء بخطوات إعادة النازحين، ومطالبته بتوظيفات مالية مقابل أيّ تجاوب من قبله.
إقرأ أيضاً: السويداء تصعّد… والأسد يستنجد بالصين
حديث الحماية الغربيّة المستبعَدة…
– الاتصال الهاتفي الذي أجراه في 29 أيلول، نائب مساعد وزير الخارجية الأميركية إيثان غولدريش بأحد مشايخ العقل الثلاثة في السويداء حكمت الهجري، المتشدّد مع الشيخ حمود الحناوي في دعم الانتفاضة هناك، لدعم الحراك السلمي في السويداء و”حرّية التعبير للسوريين”، كما أعلنت السفارة الأميركية في سوريا. ونسبت إلى المسؤول الأميركي دعمه “سوريا عادلة وموحّدة في حلّ سياسي وفق قرار مجلس الأمن الرقم 2254”. سبق ذلك اتصال ثلاثة نواب أميركيين بالشيخ الهجري، إضافة إلى اتصالات نواب أوروبيين به، ومنهم كاترين لانغزيبن.
هل تفتح هذه الاتصالات الباب على إمكان تأمين حماية غربية للحراك في السويداء، في ظلّ ما تردّد عن أنّ هناك بحثاً بإقامة منطقة حظر جوي فوق الجنوب السوري، وتحديداً محافظتي السويداء ودرعا؟ يستبعد عدد من المعارضين هذا الخيار لأنّه قد يؤدّي إلى صدام غربي روسي مباشر، كثرت المخاوف منه في الأسابيع الماضية، بسبب ما سمّته قاعدة حميميم الروسية “تحرّشات واستفزازات” الطيران الأميركي بمناطق السيطرة الجوّية الروسية.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@