في غياب التفاوض الفعلي في المسألة الجوهرية التي توقف الحرب والعمليات العسكرية، أي حلّ القضية الفلسطينية، تسلك الاتصالات الدولية والإقليمية ثلاثة مسارات حتى الآن إذا صحّت المعلومات عن أنّ الحديث عن الحلّ الجذري، أي التطرّق إلى أساس الصراع الذي أدّى إلى “طوفان الأقصى”، ما زال بعيداً ولم يحِن وقته على الرغم من الإشارات الخجولة في بعض المواقف الغربية، مقابل الإصرار عليه في المواقف العربية. واللافت أن يجري تلمّس وسائل وقنوات التواصل والوساطات على وقع استمرار القصف التدميري لغزّة، الذي يبيد عائلات بأكملها في مجزرة غير مسبوقة، فضلاً عن الحصار الذي فرضه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت على القطاع مانعاً عنه المياه والكهرباء والوقود والغذاء والموادّ الطبية، فيما المخاطر من اشتعال جبهة جنوب لبنان تتمظهر في المناوشات الخطيرة الجارية كلّ يوم، من دون أيّ كلام عن وقف إطلاق النار في القطاع.
المسارات الثلاثة هي:
– الأول: السعي إلى إخلاء سبيل الجنود والمدنيين الإسرائيليين لدى “حماس” وبينهم أوروبيون وأميركيون، تسعى كلّ من فرنسا والولايات المتحدة إلى تحريرهم من دون شروط كما يقول الجانب الفرنسي، ومعظمهم ممّن يحملون جنسية مزدوجة. ولتحقيق ذلك تعدّدت قنوات الاتصال:
الرهائن والقنوات القطريّة والتركيّة والمصريّة
– أبرزها وفق ما تسرّب إلى الآن هي القناة القطرية، إذ تحوّلت الدوحة إلى مركز اتصالات لحلّ قضيّتَي الأسرى والرهائن نظراً إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه مع “حماس” التي تتمركز قيادتها الخارجية فيها، من رئيس المكتب السياسي إسماعيل هنية ونائبه صالح العاروري وعضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق. إلا أنّ المعطيات المرتبطة بهذه القناة لا تشير إلى إمكان التوصّل إلى نتائج سريعة في هذا المجال، إذ إنّ الأسرى الإسرائيليين، عسكريين ومدنيين، الذين لم يتّضح عددهم النهائي بعد على الرغم من إعلان الجيش الإسرائيلي وقوع 155 في الأسر، موزّعون على فصائل عدّة شاركت في اقتحام مستوطنات ومعسكرات غلاف غزّة، ويحتاج الأمر إلى فرز من يحملون جنسيّتين عمّن جنسيّتهم إسرائيلية فقط.
وفق معطيات حصل عليها “أساس”، جاء التحذير العربي من تهجير الغزّيّين بعدما نقلت إسرائيل إلى دول عربية رئيسة طلبها نقل هؤلاء إلى صحراء سيناء
– تعيين الرئيس الأميركي جو بايدن السفير السابق في لبنان وعدد من دول المنطقة ديفيد ساترفيلد منسّقاً للشؤون الإنسانية يأتي في سياق محاولة بايدن تحقيق إنجاز سريع بالإفراج عن أميركيين محتجزين لدى “حماس”، في إطار التوظيف الانتخابي. ولساترفيلد قدرة على فتح قناة الاتصال التركية مع “حماس” لهذا الغرض، نظراً إلى أنّ آخر عاصمة عمل فيها سفيراً قبل تقاعده كانت أنقرة، التي بدورها تتمتّع بعلاقة جيّدة مع قادة الحركة التي يقطن بعض قادتها فيها.
– الاتصالات الأميركية مع مصر، وآخرها زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن للقاهرة حيث التقى الرئيس عبد الفتاح السيسي. لكنّ هذه القناة أدّت إلى اشتراط مصر إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزّة وفكّ الحصار عنها مقابل إخلاء سبيل الرهائن الأجانب لدى الحركة والتنظيمات الأخرى.
لا يبدو أنّ القنوات المعتمدة قد أثمرت حتى الساعة أيّ نتيجة. فكلّ فريق ما يزال يخبّئ أوراقه المتّصلة بالمسارين الثاني والثالث، أي إمكان توسيع الحرب إلى الجبهات الأخرى، ومسار الترانسفير الإسرائيلي للفلسطينيين من غزّة إلى مصر.
الخوف على “اليونيفيل” وماكرون “يحذّر رئيسي
الثاني: عدم توسّع الحرب، والمقصود به تحديداً، في شكل رئيسي، عدم ضمّ الجبهة اللبنانية حيث السيطرة الكاملة للحزب (الذي يجيز أو لا يجيز لـ”حماس” وغيرها استخدام الجنوب لإطلاق الصواريخ)، وبالتالي إيران إلى المواجهات العسكرية الدائرة. وهو الأمر الأساسي الذي زار من أجله كلّ من بلينكن ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عدداً من دول المنطقة، وخصوصاً لبنان، بالنسبة إلى عبد اللهيان، بعد سلسلة اتصالات جرت مع طهران في هذا الصدد. وتجري الجهود على الجانبين الإسرائيلي والإيراني. ومن أبرز الخطوات على هذا المسار يمكن ذكر الآتي:
– الحركة السياسية في شأن هذا المسار تتفوّق في أهميّتها بالنسبة إلى واشنطن على أيّ أمر آخر، لأنّ فتح جبهات جديدة ينذر بتورّط قوّاتها المعزّزة في المنطقة في هذه الحال. ومن المنطقي أن تتجنّب إدارة بايدن في سنة الانتخابات التورّط في حرب أخرى، إضافة إلى الأكلاف السياسية والاقتصادية للحرب في أوكرانيا ضدّ روسيا، التي يقول المتّصلون بموسكو هذه الأيام إنّها مرتاحة إلى أنّ التركيز الغربي، بعد “طوفان القدس”، يتمّ على الشرق الأوسط بدلاً من أوكرانيا.
– “تحذير” الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي خلال اتصاله به الأحد الماضي من “أيّ تصعيد أو توسيع للنزاع بين إسرائيل وحركة حماس، وخاصة في لبنان”. وجاء الاتصال بعد سلسلة اتصالات أجراها مع قادة المنطقة والدول الغربية، لا سيما منها التي لديها وحدات في جنوب لبنان في إطار قوات حفظ السلام الدولية (اليونيفيل) وفقاً للقرار الدولي 1701. فالدول الأوروبية تخشى على أمن وسلامة هذه القوات التي تقبع في مواقع خطرة، لا سيما أنّ صاروخاً سقط في محيط مقرّ قيادة هذه القوات في الناقورة السبت الماضي.
أشارت مصادر واسعة الاطّلاع إلى أنّ الطلب الإسرائيلي أُبلغ إلى مصر والسعودية، فرفضتاه فوراً. لم تخفِ بعض الأوساط الدولية أنّ الجانب الإسرائيلي يراهن على أن تموّل الدول الخليجية إسكان هؤلاء في الصحراء
بلينكن يستنجد ببكين
– أشارت صحيفة “يديعوت أحرونوت” اليوم إلى أنّ إسرائيل وافقت على عرض أميركي بألّا تبادر إلى شنّ هجوم على لبنان مقابل التزام أميركي بالتدخّل في حال مبادرة الحزب إلى الهجوم. فالإعلام الإسرائيلي ذكر أنّ وزير الدفاع يوآف غالانت يقف إلى جانب فتح جبهة لبنان، فيما رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو يفضّل التريّث.
– شملت الحركة الغربية في هذا الصدد اتصال بلينكن بنظيره الصيني وانغ يي، حسب تقديرات دبلوماسية. كان واضحاً إشارة الخارجية الأميركية إلى أنّ بلينكن “ناقش مع نظيره الصيني أهمية الحفاظ على الاستقرار في المنطقة وثني الأطراف الأخرى عن الانضمام إلى النزاع”. استنجاد واشنطن ببكين في هذا المجال، على الرغم من توتّر العلاقات بين الدولتين العظميين، يشير إليه اتصال الوزير الصيني بنظيره الإيراني عبد اللهيان لبحث “التطوّرات في الشأن الفلسطيني” عقب الاتصال الأميركي.
إلا أنّ طهران تكرّر لازمة التحذير من الاجتياح الإسرائيلي لغزّة ملوِّحةً من خلالها باللجوء إلى فتح جبهة لبنان، ويتردّد أنّ الجانب الأميركي استطاع حتى الآن ثني حكومة نتانياهو عن احتلال غزّة. وعزّز ذلك ما نُسب إلى بايدن أمس من كلام قال فيه إنّ احتلال إسرائيل للقطاع سيكون “خطأً فادحاً”.
طلب إسرائيليّ… سبق التحذير العربي؟
الثالث: وهو المسار المتعلّق بوقف تهجير سكان غزّة، والذي استجدّ بعد الإنذار الذي وجّهه الجيش الإسرائيلي في 13 تشرين الأول إلى سكّان القطاع داعياً إياهم إلى مغادرة الجزء الشمالي منه إلى الجزء الجنوبي.
كان بيان وزراء الخارجية العرب صدر قبل ذلك بيومين، داعياً إلى “الوقف الفوري للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة… وحماية أمن المنطقة واستقرارها من خطر توسّع دوّامات العنف التي سيدفع ثمنها الجميع”. وتضمّن في فقرته الخامسة “التأكيد على دعم ثبات الشعب الفلسطيني على أرضه، والتحذير من أيّة محاولات لتهجيره خارجها ومفاقمة قضية اللاجئين الذين يجب تلبية حقّهم في العودة والتعويض… والتصدّي الجماعي لأيّة محاولات لترحيل الأزمة التي يفاقمها استمرار الاحتلال إلى دول الجوار”.
لا يبدو أنّ القنوات المعتمدة قد أثمرت حتى الساعة أيّ نتيجة. فكلّ فريق ما يزال يخبّئ أوراقه المتّصلة بالمسارين الثاني والثالث، أي إمكان توسيع الحرب إلى الجبهات الأخرى، ومسار الترانسفير الإسرائيلي للفلسطينيين من غزّة إلى مصر
وفق معطيات حصل عليها “أساس”، جاء التحذير العربي من تهجير الغزّيّين بعدما نقلت إسرائيل إلى دول عربية رئيسة طلبها نقل هؤلاء إلى صحراء سيناء. وأشارت مصادر واسعة الاطّلاع إلى أنّ الطلب الإسرائيلي أُبلغ إلى مصر والسعودية، فرفضتاه فوراً. لم تخفِ بعض الأوساط الدولية أنّ الجانب الإسرائيلي يراهن على أن تموّل الدول الخليجية إسكان هؤلاء في الصحراء. وأدّى صدور البيان الإسرائيلي بعد يومين مطالباً مليون ومئة ألف بالانتقال من شمال غزّة إلى جنوبها، إلى أن يرفع عدد من القادة العرب الصوت رفضاً للترانسفير، كوان أكثر التعابير وضوحاً في هذا الصدد قول العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني إنّ “أيّ محاولة تهجير قسري للفلسطينيين هي خرق للقانون الدولي وتنذر بآثار كارثية على دول المنطقة”.
الخوف على الضفّة
قاد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي حملة اتصالات دولية من لندن، مؤكّداً أنّ العاهل الأردني يحمل صوت الفلسطينيين وصوت العرب، داعياً إلى وقف الحرب وتلبية حقوق الشعب الفلسطيني، ومؤكّداً أنّ الفلسطيني ليس أقلّ إنسانية من الإسرائيلي. وتتعدّى الخشية الأردنية ما يُخطَّط لغزّة، إذا نجح المخطّط الإسرائيلي فيها، لأنّ حكّام إسرائيل المتطرّفين لا يخفون نيّتهم تهجير فلسطينيّي الضفة الغربية نحو الأردن لاحقاً. وهذا يعني العودة إلى المخطّط الجهنّمي للوطن البديل، فضلاً عن أنّ هذا الاحتمال مثلما يمسّ بأمن مصر بالنسبة إلى غزّة، يطال أمن السعودية والعراق من جهة الأردن.
إقرأ أيضاً: أميركا تفاوض إيران وتترك غزّة لإسرائيل
سبق الموقف الأردني الرفض المصري القاطع لإسكان الغزّيّين في سيناء. وتبعه إعلان مصدر مقرّب من الحكومة السعودية تعليق محادثات التطبيع مع إسرائيل ودعوة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان خلال لقائه بلينكن إلى “وقف العمليات العسكرية التي راح ضحيّتها الأبرياء، والعمل على التهدئة ووقف التصعيد واحترام القانون الدولي الإنساني ورفع الحصار عن غزّة، وتهيئة الظروف لعودة الاستقرار واستعادة مسار السلام بما يكفل حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه المشروعة وتحقيق السلام العادل والدائم”.
حتى اللحظة ينحصر التفاوض على مفاعيل “طوفان الأقصى” لا على أسبابه.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@