لا مفاوضات في الأفق من أجل وقف الحرب، كما تؤكّد جهات دبلوماسية عربية معنيّة بهذا الشقّ من المواجهات الدائرة في فلسطين المحتلّة.
هناك إشارات ومسارات أخذت تبرّر أسباب المخاوف من حصول ترانسفير فلسطيني جديد، وسط حرف الأنظار عمّا يحصل في غزّة بعد الإنذار الإسرائيلي لمليون ومئة ألف فلسطيني بإخلاء شمالها ومغادرة المدنيين إلى جنوبها، في ظلّ حملة إعلامية سياسية مركّزة تحمّل الفلسطينيين مسؤولية فظاعات إنسانية، وتتجاهل ما يتعرّضون له، لا سيّما في غزّة.
أكثر ما يقلق المتخوّفين ممّا تخبّئه الأيام والأسابيع المقبلة هو الإعلان الأميركي عن اتصالات تجريها واشنطن مع مصر من أجل تأمين “ممرّ إنساني” للمدنيين من غزّة إلى رفح، حيث شُيّدت منذ سنوات في المناطق المحيطة بها أبنية ما زالت خالية تمّ بناؤها بأموال المساعدات للحكومة المصرية.
تسلسل الأحداث هذا يُقلق المتخوّفين من هذا السيناريو لأسباب عدّة. ومن الأسباب المباشرة بدء منظمات الأمم المتحدة كافة في غزّة، بإخلاء مراكزها من الموظفين ونقلهم إلى خارجها باتجاه مصر ومواقع أخرى، منذ صباح الأمس.
لا تفاوض مع الفلسطينيّين بل مع إيران فقط
وهناك أسباب أخرى منها:
1- جلّ ما يجري على الصعيد السياسي هو اتصالات للحؤول دون فتح الجبهة من جنوب لبنان.
2- أمّا التفاوض مع الجانب الفلسطيني، سواء كان “حماس” أم السلطة الفلسطينية، فهو مقفل ما دامت إسرائيل تتمتّع بالتأييد الغربي الكامل لحرب الإبادة التي تشنّها على الفلسطينيين.
3- التفاوض الجاري لضمان عدم فتح الجبهة اللبنانية يتمّ مع إيران لا مع الجانب الفلسطيني، وحتماً ليس مع الجانب اللبناني إلا بقدر ما طُلب منه في مجال نقل الرسائل.
تعتمد واشنطن سياسة “الاحتواء والردع” مع إيران، للحصول على ثمن التهدئة على الجبهة الجنوبية، وإتاحة المجال لإسرائيل لتنفيذ الترانسفير الذي تهيّئ له منذ عقود
حملة قلب الرأي العامّ الهستيريّة
هنا تكمن الخطورة، على الرغم من كلّ الرياء الأوروبي حول تجنيب المدنيين مفاعيل هذه الحرب ومآسيها. والخلفيات تتراكم كالآتي:
– ما يقصده الغرب هو تجنيب المدنيين الإسرائيليين الخطر، بعد الحملة الإعلامية الهستيرية الهادفة إلى تبرير تغطية المزيد من الوحشية ضدّ فلسطينيّي غزّة، استناداً واتّكاءً على الرواية القائلة بأنّ مقاتلي “حماس” ارتكبوا مجازر بالمدنيين الإسرائيليين أثناء اقتحامهم مستوطنات وثكنات غلاف غزّة. والجديد بدء بعض الإعلام الأميركي بالتراجع عن الأخبار الكاذبة التي انتشرت وادّعت أنّ “حماس” ذبحت العزّل والأطفال، وأطلقت النار العشوائي على الجموع التي كانت ترقص في الاحتفال الموسيقي. وأوضحت جريدة “نيويورك تايمز” أن لا أدلّة على كلّ ذلك، علاوة على كشف التلاعب ببعض الفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي. ومع ذلك تحدّث الرئيس الأميركي جو بايدن عن “ذبح أكثر من ألف مدني”.
– مع أنّ بعض الصور والفيديوهات التي جرى بثّها صعّب على الدبلوماسيين الفلسطينيين في الغرب وعلى مناصري القضية الفلسطينية مهمّتهم في ظلّ الهستيريا، فإنّ رموزاً مثل السفير في لندن حسام زملط والسفيرة السابقة العالية الخبرة في باريس ليلى شهيد واجها الحملات بشجاعة وكفاءة لا تخلو من نبذ العنف ضدّ أيّ كان، على الرغم من الهستيريا التي افتُعلت.
– مفعول هذه الحملة أخذ مداه خلال الأسبوع الماضي وساهم في قلب مزاج الرأي العامّ ضدّ الفلسطينيين، وارتكزت عليه الحكومات الغربية في انحيازها الكامل إلى حكومة بنيامين نتانياهو المشكَّلة من عتاة العنصريّين.
– “إنّها الانتخابات”، يقولون، التي تدفع بايدن إلى التضامن مع هؤلاء لكسب الناخب اليهودي في استحقاق الرئاسة بعد زهاء سنة.
تغطية الفظاعات الإسرائيليّة تمهيد
– قبل أكثر من سنة كان توجّه الرأي العامّ العالمي ومعه وسائل الإعلام المؤثّرة في الغرب إلى إدانة الوحشية التي تعامل بها نتانياهو مع المدنيين الفلسطينيين، وخصوصاً بعد اغتيال الجيش الإسرائيلي الإعلامية في قناة “الجزيرة” شيرين أبو عاقلة. اليوم قتل الإسرائيليون ثمانية صحافيين فلسطينيين في غزّة، وهدموا منازل مئات المدنيين الذين هُدمت فوق رؤوسهم، مبيدة عائلات بكاملها، ولم يعدّل الإعلام الغربي من حملته التي غطّت الوحشية الإسرائيلية من خلال تحميل “طوفان الأقصى” مسؤولية زهق الأرواح. واختفى حديث إدارة بايدن عن السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل في سياق مشروعه للتطبيع بين إسرائيل والسعودية، واقتصرت الأهداف الرسمية المعلنة لجولة وزير خارجيته أنتوني بلينكن على عنوان “تجنّب توسّع الصراع”.
– لم يخرق تلك الحملة سوى بضع كلمات على لسان مفوّض الأمن والخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل، الذي أشار إلى استهداف إسرائيل المدنيين.
– لم ينبس أيّ مسؤول غربي بكلمة حين أمر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت قبل أربعة أيام بفرض “حصار كامل” على قطاع غزّة، وشدّد على أنّ ذلك يُترجَم بالنسبة لسكّان القطاع البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة بـ”لا كهرباء ولا طعام ولا مياه ولا غاز”، وقال: “سنعلّق كلّ شيء وما كان في غزّة لن يكون موجوداً بعد الآن”. وأتبع الجيش الإسرائيلي ذلك بقصف المستشفيات أمس.
وحدها “هيومن رايتس ووتش” رأت أنّ كلامه “دعوة إلى جريمة حرب”.
لا مفاوضات في الأفق من أجل وقف الحرب، كما تؤكّد جهات دبلوماسية عربية معنيّة بهذا الشقّ من المواجهات الدائرة في فلسطين المحتلّة
تبرئة إيران للتفاوض معها؟
مع أنّ الجهات الدبلوماسية التي تحدّث إليها “أساس” رجّحت أنّ حملة قلب الرأي العامّ “ظرفية”، إلّا أنّها أقرّت بأنّ الانتقال إلى مرحلة التفاوض في الحقّ الفلسطيني، سواء مع الدول العربية أو الجانب الفلسطيني، يتطلّب اتّضاح النتائج العسكرية والسياسية للحرب الدائرة. ومع بروز بشكل واضح في الأيام الماضية بعض المؤشّرات إلى تجاهل غربي للطرف العربي وتفضيل التفاوض مع إيران، إذ اتّجهت التصريحات الأميركية إلى تبرئة إيران من تهمة المسؤولية عن “طوفان الأقصى”:
– أولاً: بعدما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” أنّ التخطيط للعملية تمّ بإشراف “حرس الثورة” في اجتماعات عُقدت في بيروت، نقلت “نيويورك تايمز” عن مسؤول في المخابرات الأميركية أن “لا صلة مباشرة بين الهجوم الذي شنّته “حماس” وبين إيران”، وأنّ هناك تقارير متناقضة حول تأكيد مشاركة إيران في التخطيط للهجوم. وقال مسؤولون أميركيون أن لا إثباتات لديهم على حصول هذه الاجتماعات.
– ثانياً: نُسِب إلى وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن قوله إنّ البنتاغون لم يلاحظ وجود حشود من قبل الحزب في جنوب لبنان، في وقت قال الجيش الإسرائيلي إنّه قصف الإثنين الماضي برجاً للمراقبة وبنية تحتية تابعة للحزب. وركّزت تصريحات أوستن على اعتبار أنّ إرسال حاملتَي الطائرات جيرالد فورد ثمّ آيزنهاور ليس للتدخّل في الحرب بل كي لا تتوسّع. ويشمل التخبّط الأميركي في عملية تبرئة إيران أيضاً إعلان البيت الأبيض أمس الأوّل أنّه “لا يوجد دليل محدّد على أنّ إيران كانت متورّطة في الهجوم على إسرائيل، لكنّها بشكل عامّ متواطئة”.
إقرأ أيضاً: هل ورّطوا “حماس”؟ هل تخلّوا عنها؟
– ثالثاً: في وقت رأى المراقبون أنّ هذه التصريحات الأميركية جاءت بعدما حذّر بايدن إيران من التدخّل في الحرب، صرّح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إثر لقائه نظيره اللبناني عبد الله بوحبيب أمس بأنّ كلّ الاحتمالات واردة في حال لم تتوقّف الحرب على غزّة، وأنّ هدف زيارته هو التأكيد على حفظ أمن لبنان. ونقل عنه بوحبيب أنّه تهمّه التهدئة.
بموازاة ذلك يكتفي الحزب بالتأكيد أنّه على جهوزية للتدخّل في هذه الحرب عندما يحين وقته.
تعتمد واشنطن سياسة “الاحتواء والردع” مع إيران، للحصول على ثمن التهدئة على الجبهة الجنوبية، وإتاحة المجال لإسرائيل لتنفيذ الترانسفير الذي تهيّئ له منذ عقود.
يبقى الحديث عن الثمن الذي ستحصل عليه طهران.