“ربيع الفدرلة”.. محاولة لنسف مبادرة السّلام العربيّة

مدة القراءة 8 د


هل أخرَجَت الإدارة الأميركيّة إلى الواجهة مشروع “تقسيم المُقسّم من الدّول العربيّة إلى دول طائفيّة” الذي بدأ من العراق وكانَ طرحه وزير خارجيّتها الأسبق هنري كيسنجر سنة 1973؟
تهدُف هذه السّياسة التي نسجها كيسنجر أساساً إلى بقاء إسرائيل مُتماسِكة في محيطٍ مُتفكّكٍ مُتناحر مُجرَّد من قواه العسكريّة والبشريّة. لكنّ اليوم تسير الأمور تجاه التقسيم، ونسف روحيّة مُبادرة السّلام العربيّة بتطيير حقّ العودة للّاجئين الفلسطينيين، الذينَ شُرّدوا من مخيّمات العِراق أثناء الغزو، ومن سوريا في أثناء حربها الأهليّة، وبدأت إرهاصات تهجير جديد تطلّ برأسها في لبنان من مخيّم عين الحلوة.
تشهدُ المنطقة مخاض ولادة “الشّرق الأوسط الجديد”، الذي دائماً ما يُصادِفُ آذاننا لدى سماع المسؤولين الأميركيين يتحدّثون عن خطط “السّلام في الشّرق الأوسط”، من اليَمَن وصولاً إلى شواطئ لبنان، مروراً بالمعارك الضّارية في شرق سوريا بين العشائر العربيّة والأكراد وجنوبها حيث الانتفاضة الدّرزيّة في السّويداء.
لم تُفارق هذه العبارة الأدبيّات الأميركيّة تجاه المنطقة منذ غزو أفغانستان في 2001، وبعدها غزو العِراق في 2003، وربّما أشهر المحطّات التي سمِعَ بها العالم كانت في تصريح وزيرة الخارجيّة السّابقة كوندوليزا رايس خلال جولتها في المنطقة بين لبنان وإسرائيل، أثناء حرب تمّوز 2006، إذ قالت: “ما نراه الآن هو آلام المخاض لشرق أوسط جديد، ومهما كنّا فاعلين فإنّه يتعيّن علينا التأكّد من أنّنا نتّجه إلى الشرق الأوسط الجديد”.
منذ ذلك الحين تغيّرَت خريطة “سايكس – بيكو” بعدما أتمّت مئويّتها. تقسّمَت الخريطة التي قسّمت ترِكَة السّلطنة العُثمانيّة بعد الحرب العالميّة الأولى إلى دولٍ تتقاسم النّفوذ في أكثرها فرنسا وبريطانيا، بانتظار إعلانِ موعد انتهاء صلاحيّتها رسميّاً واكتمال خريطة الشّرق الأوسط الجديدة.

أوصلَت اضطرابات الرّبيع العربيّ اليَمَن إلى “مؤتمر حوارٍ وطنيّ” في سنة 2013، طُرحَ في مُخرجاته تقسيم البلاد إلى 6 أقاليم في الدّستور الجديد

ما يحصل اليوم كان بدؤه في عام 2011 حين اندلعت شرارة ما يُسمّى بالرّبيع العربيّ من تونس وما تلاها من أحداث في مصر وليبيا واليمن وسوريا والسّودان وصولاً إلى اليوم.
استهدفَت “الثّورات” المُتنقّلة دولاً ذات حكم مركزيّ قويّ. واستهدفَت تفتيت الجيوش الوطنيّة فيها. وفي أغلب هذه الدّول خرجَت أصوات تُنادي بالفدرلة على أنّها “الحلّ”، وفي دولٍ أخرى رسمَت الفدراليّة حدودها بالحديد والنّار من دون أصواتٍ تُنادي بها.

تقسيم المُقسّم
لم يكن يتوقّع أحد أنّ ولادة الشّرق الأوسط الجديد تعني تقسيم المُقسّم بما يتجاوز “سايكس – بيكو” إلى دول من طبيعة قبليّة وإثنية وعرقيّة ومذهبيّة.
– كانَ أوّل الغيث في العراق. نقطة البداية التي “نصحَ” بها كيسنجر. بلاد ما بين النّهريْن شظّت وتشظّت. شظّت ذاتها يومَ انقسَمَت بين قبائل وسُنّة وشيعة وعرب وأكراد وتركمان. وتشظّت يومَ قرّر الحاكم المدني الأميركي بول بريمر حلّ الجيش الوطنيّ بعد احتلال العراق في نيسان 2003.
لقد كان بقاء الجيش العراقيّ ضمانةً لبقاء العراق مُتماسكاً، وهذا ما يذكره السّياسيّ العراقيّ الرّاحل أحمد جلبي في حديثه مع الزّميل غسّان شربل في كتابه “العراق من حربٍ إلى حرب”.
يُؤكّد جلبي أنّ قرار حلّ الجيش العراقيّ كانَ يلقى مُعارضةً من القوى المُعارضة لنظام صدّام حسين وحزب البعث، وقد أبلغوا هذا لبريمر الذي لم يتوانَ عن حلّ الجيش العراقيّ في قراره الثّاني الذي اتّخذه بعد حلّ حزب البعث.
يشير الجلبي إلى أنّ حلّ الجيش ساهم في تفتيت العراق وأدّى إلى الاقتتال المذهبيّ والعرقي بين 2004 و2009، فلقي العراق مصير الفدرلة وفق 3 أقاليم، في مُقدّمها الحلم الكُرديّ والطّموح الشّيعي، والقهر السّنّي.
– في سوريا التي صارَت 5 دُول غير مُعلنة، لكنّها قائمة بالحدود الأمنيّة والسّياسيّة والعسكريّة.
في شرقها منطقة حكمٍ ذاتيّ للأكراد عمادها قوّات سوريا الدّيمقراطيّة “قسد”، ومُغطاة بالوجود العسكريّ الأميركيّ على الضفّة الشّرقيّة لنهر الفُرات.
قبل أسبوعيْن، نشبَ قتالٌ عنيفٌ على الضفّة الغربيّة لنهر الفرات في دير الزّور بين قبيلتَي “العكيدات” و”البكارة” العربيّتيْن والعشائر المنضوية إليها، وبين قوّات سوريا الدّيمقراطيّة (قسد) ذات الغالبيّة الكرديّة. وذلكَ على خلفيّة اعتقال رئيس مجلس دير الزّور العسكريّ أحمَد الخبيل، المعروف بـ”أبي خولة”، بعد استدراجه إلى “استراحة الوزير”، المقرّ الرّئيسي لقوّات “قسد”.

الخَتام في لبنان. هُنا حيثُ ترتفع الأصوات المُنادية بتقسيم البلاد على أساس طائفيّ تحت مُسمّى الفدراليّة

سريعاً ما انقلبَت هذه المعارك إلى معاركَ عرقيّة بين العرب والأكراد، وحملت الاشتباكات في طيّاتها خلافات على تقاسم النّفوذ. بكلام آخر، تُعارض القبائل العربيّة أن تكونَ تحت حُكم الكُردِ، وتطمح إلى أن تُسيطر هي على المناطق ذات الغالبيّة العربيّة.
في حال نجح هذا السّيناريو، فقد تشهد منطقة “شرق الفرات” ولادة منطقة حكم ذاتيّ عربيّة تُضاف إلى نظيرتها الكُرديّة.
أمّا في الشّمال، فتوجد منطقة حكم ذاتيّ سنّيّة عربيّة – تُركمانيّة، مُغطّاة بالوجود العسكريّ التّركيّ في إدلب وريفها وريفَيْ حلب واللاذقيّة.
صارَت الدّولة العلويّة في اللاذقيّة والسّاحل السّوريّ أمراً واقعاً يُغطّيه الوجود الرّوسيّ العسكريّ والأمنيّ في طرطوس وحميميم.
في العاصمة دمشق وصولاً إلى حمص وحلب وغرب الفُرات دولة إيرانيّة يحميها الحرس الثّوريّ وميليشيات ذات ألقاب وجنسيّات كثيرة. ولئن كانَت تصعبُ تسمية هذه الدّولة بالدّولة “الشيعيّة”، إلّا أنّ واقعَ الحال والتغيير الدّيمغرافي والطّائفيّ المُغطّى بالجمعيّات الثّقافيّة الإيرانيّة والمعونات، وتجنيس العراقيين واللبنانيين والأفغان، يُؤكّد أنّ دولةً شيعيّةً صارَت قائمة هُناك.
أمّا الدّولة الخامسة فقد أطلّت برأسها قبل أيّام بعدما تصدّرَ مطلب الحكم الذاتي التظاهرات القائمة في منطقة السّويداء.
– في ليبيا التي انشطرَت إلى خمس مناطق نفوذ صارَ هُناك شرقٌ وغربٌ، جنوبٌ وشمال، إضافة إلى طرابلس الغرب التي صارَت دولة قائمة بحدّ ذاتها.
– أمّا السّودان فحكايته تبدأ مع انفصال الجنوب المسيحي عن بلاد النّوبة المُسلمة كلّها. وإذا كان مُبرّراً على معنى ما انفصال الجنوب بسبب الهويّات الدينيّة، فما ليسَ مفهوماً على الإطلاق ما حصلَ ويحصل الآن في السّودان من تقسيم وحروبٍ أهليّة وقبليّة أعادَت قضيّة انفصال إقليم دارفور إلى الواجهة. يُضاف إلى هذا ما صرّح به قائد قوّات الدّعم السّريع حمدان دقلو، المعروف بـ”حميدتي”، قبل أيّام من حلٍّ لأزمة السّودان يتضمّن “فدرلة الدّولة”.
– يومَ وصلت رياح “الشّتاء العربيّ” إلى اليَمَن، هبّت رياح التقسيم على البِلاد التي خاضت غمار الحروب بين شمالها وجنوبها في السّابق.

صارَت الدّولة العلويّة في اللاذقيّة والسّاحل السّوريّ أمراً واقعاً يُغطّيه الوجود الرّوسيّ العسكريّ والأمنيّ في طرطوس وحميميم

أوصلَت اضطرابات الرّبيع العربيّ اليَمَن إلى “مؤتمر حوارٍ وطنيّ” في سنة 2013، طُرحَ في مُخرجاته تقسيم البلاد إلى 6 أقاليم في الدّستور الجديد، وهي:
1- آزال الذي يضمّ: صنعاء، صعدة، عمران، وذمار.
2- الجند الذي يضمّ مُحافظتيْ تعز وإب.
3- تهامة الذي يضمّ: الحُديدة، ريمة، المحويت، وحجّة.
4- حضرموت الذي يضمّ: حضرموت، أرخبيل سقطرى، شبوة، والمُهرة.
5- سبأ الذي يضمّ: مأرب، الجوف، والبيضاء.
6- عدن الذي يضمّ: عدن، أبين، لحج، والضّالع.
رفضتَ ميليشيات الحوثيّ مخرجات الحوار، وقامت بانقلابها الشّهير. لكنّها على أرضِ الواقع كانت تبحث عن منفذٍ “بحريّ” لإقليم آزال الذي يضمّ أغلبيّة زيديّة. وهذا ما يُفسّر استماتة الحوثي في السّيطرة على الحُديْدَة ومينائها. زِد على ذلك أنّ “إقليم الحوثي” تحوّلَ إلى قاعدةٍ تُهدّد الأمن القوميّ للمملكة العربيّة السّعوديّة.
الخَتام في لبنان. هُنا حيثُ ترتفع الأصوات المُنادية بتقسيم البلاد على أساس طائفيّ تحت مُسمّى الفدراليّة. ولئن كانَ الطّرح صعباً تطبيقه على أرضِ الواقع، إلّا أنّ ما يدور من حولنا في المنطقة، يُنبئُ بأنّ رياح “الفدراليّة” التي تهبّ على لبنان ليسَت رياحاً موسميّة، بل مشروعٌ جاءَ ليستوطِنَ.

إقرأ أيضاً: أسئلة اللامركزيّة القاتلة

ومن يذهب أبعد في قراءة ما يجري في مخيّم عين الحلوة من محاولات ترمي إلى تحويل اللاجئين الفلسطينيين إلى نازحين مُشتّتين كما حصلَ قبل أعوامٍ في مُخيّم اليرموك السّوريّ، يُدركُ أنّ لبنان الذي رسّمَ حدوده البحريّة مع إسرائيل، وفتحَ الباب لترسيم حدوده البريّة، يمشي بخطىً واثقة نحوَ أن يكونَ في ركبِ مشروعَيْ التقسيم و”تطيير” حقّ العودة للّاجئين الفلسطينيين في إطار محاولة إسرائيليّة – أميركيّة لتفريغ خطّة السّلام العربيّة من روحيّتها المُرتبطة بحقّ العودة، ويكونُ لبنان “دُرّة تاج” “تقسيم المُقسّم”، علمَ اللبنانيّون ذلك أم لا.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: IbrahimRihan2@

مواضيع ذات صلة

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…

الثنائي وترشيح عون: سوياً ضده… أو معه

كعادته، وعلى طريقته، خلط وليد جنبلاط الأوراق عبر رمي قنبلة ترشيحه قائد الجيش العماد جوزف عون لرئاسة الجمهورية، ليحرّك مياه الرئاسة الراكدة. قبيل عودته إلى…

الليلة الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”..

تحملُ ليلة هروب رئيس النّظام السّوريّ المخلوع بشّار حافظ الأسد قصصاً وروايات مُتعدّدة عن تفاصيل السّاعات الأخيرة لـ”ديكتاتور الشّام”، قبل أن يتركَ العاصمة السّوريّة دمشق…