فادي بجّاني، شهيد الكحّالة قبل يومين، عونيّ. هذه حقيقة كبرى برسم بيان الحزب.
البيان الذي قال عنه سيزار أبي خليل إنّه “مجافٍ للحقيقة”.
أبي خليل نائب “التيّار” عن المنطقة وجار الكحّالة. وخبير عائلاتها وبيوتها وبشرها. هو يدرك حتى اليقين من هو فادي. ومن هي عائلته ومن هم أبناؤه.
يعرفهم رفاقاً له. يعرف نشاطهم في “التيّار” ومؤسّساته. ويعرف أنّهم بالتأكيد وقطعاً ليسوا “من المسلّحين من الميليشيات الموجودة في المنطقة”، كما زعم بيان الحزب.
فادي، لا شكّ أنّه واحد من الآلاف الذين احتفلوا ذات يوم من شباط 2006 بتفاهمٍ اعتقد هو ورفاقه أنّه سينقذ لبنان.
وهو لا شكّ من الذين فتحوا بيوتهم وقلوبهم في تموز 2006 لنازحي العدوان على بلده ومقاومته.
قد يكون فتح لهم يومها باب الكنيسة، كنيسة الكحّالة، ملاذاً لهم من وحشيّة وبربريّة إسرائيل.
الكنيسة نفسها التي استشهد على مدخلها فادي قبل يومين. فاختصر نضالاً طويلاً لأجل لبنان الذي عشقته الكحّالة. واختصر أيضاً صراعه مع مرضٍ لم يُقعده عن الاستشهاد…
من هنا يبدأ الكلام عن حادثة الكحّالة. وكلّ كلام آخر كذب ودجل ورياء ونفاق. وكلّ صمتٍ آخر جبانة وانتهازيّة حتّى الغثيان والقرف.
************************
أصلاً، ليست المرّة الأولى التي يطلَق فيها الرصاص غزيراً عند كوع الكحّالة.
الكنيسة نفسها التي استشهد على مدخلها فادي قبل يومين. فاختصر نضالاً طويلاً لأجل لبنان الذي عشقته الكحّالة. واختصر أيضاً صراعه مع مرضٍ لم يُقعده عن الاستشهاد
ثمّة سابقتان شهيرتان. هما ضروريّتان لفهم ما حصل قبل يومين. والأهمّ، لتوقّع ما قد ينتظرنا في الأيّام المقبلة.
المرّة الأولى كانت منتصف نيسان 1968. حينذاك سقط شابّ لبناني اسمه خليل عزّ الدين الجمل. كان أوّل لبناني يستشهد على أرض فلسطين دفاعاً عن ترابها المحتلّ من الصهاينة في ما عرف يومها باسم معركة الأربعين.
بعد أيّام على استشهاده، كان جثمانه عائداً من الأردن إلى لبنان عبر سوريا. وصل موكب الجثمان إلى كوع الكحّالة. أمام الكنيسة الشاهدة نفسها. هناك تجمّع أبناء البلدة كلّهم. أنزلوا الجثمان من المركبة التي تقلّه. حملوه على الأكفّ بالزغاريد والهتافات ونثر الورود. حتّى عبروا به بلدتهم. وسط إطلاق الرصاص وداعاً للشهيد…
بعد أقلّ من سنتين، كانت المرّة الثانية. عنصرٌ فلسطيني قُتل في حادثة صراع سلطوي في مخيّم تل الزعتر، في 25 آذار 1970. وكان المسلّحون الفلسطينيون ينقلون جثّته إلى دمشق من بيروت. بطريق الذهاب أطلقوا النار في الكحّالة استعراضاً واستفزازاً. في طريق عودتهم حاولوا الأمر نفسه. فاشتبكوا مع أبناء البلدة التي سقط شهداؤها على مدخل الكنيسة.
بعد خمسة أعوام سقط لبنان كلّه في حرب الجنون…
انقلاب المشهد في الكحّالة
في أقلّ من سنتين تغيّر المشهد في الكحّالة. بل انقلب كلّيّاً.
وظلّ المؤرّخون حتى اليوم يسألون: من الذي تغيّر يومها؟ أبناء الكحّالة؟ أم السلاح الفلسطيني؟
والسؤال نفسه مطروح اليوم: من الذي تغيّر: فادي بجّاني، ابن الكحّالة العونيّ؟ أم هويّة ووظيفة ودور السلاح؟ أم الاثنان معاً؟ أم هي المؤامرة لتسهيل التنصّل وتجهيل المسؤوليّات؟
هي أسئلة لا يمكن لقيادة الحزب ألّا تتوقّف عندها. من منطلق الحرص على المقاومة. كمقاومة للعدوّ. وكنموذج طبيعي لأيّ مقاومة، في عنصرَيْها الاثنين المحدِّدين لكونها مقاومة أو لا: أن تكون أوّلاً انبثاقاً من وجدان شعب. وأن تكون ثانياً تجسيداً لقرار هذا الوجدان بمواجهة عدوّ خارجي.
أيّ انتقاص لواحد من هذين العاملين، يُسقط هويّة المقاومة. وفي التاريخ أمثلة وشواهد كثيرة. وفي الذاكرة تسميات محاذية لمقاومات تحوّلت حركات تغيير أو تحرير أو تمرّد أو عصيان أو سلطة أو دويلات… لكنّها فقدت هويّتها المقاوِمة. إمّا لأنّها لم تعد تمثّل وجدان شعبها. وإمّا لأنّ سلاحها لم يعد موجّهاً ضدّ عدوّ خارجي.
وهذا هو المحظور في لبنان. خصوصاً أنّ علّة وجود مقاومته، ما تزال حاضرة كلّها.
وهو ما يجعل المسؤولية مضاعفة. وعلى الجميع. وأولاً ودائماً على قيادة الحزب.
فائض الجنون
هؤلاء لبنانيون. مقاومون. دافعوا عن بلدهم. كما قال البطريرك صفير عنهم في قلب واشنطن ذات يوم. صحيح أنّ هناك شكوكاً في استهدافات خارجية. تماماً كما في السبعينيات. واحتمال تآمر من بعيد أو قريب.
لكنّ المنطق المضادّ والقائل بأنّ كلّ كلمة أو ملاحظة أو إشارة أو تنبيه، حول أخطاء الحزب وهفواته، أو حول ارتكابات ناسه وتغوّل من هم على حِفافه، تكون صادرة حكماً وحتماً عن صهيونيّ عميل وخائن… فهذا يتخطّى فائض الجهل بلبنان ليبلغ حدّ فائض الجنون.
هو جنون الوهم باحتلال لبنان كلّه، وطوائفه وجماعاته كلّها، تحت غطاء مقاومة احتلال إسرائيل.
خصوصاً بعدما ورّط عملاء كاريش الحزب نفسه في الاستدراج إلى اتفاقية دولية مع إسرائيل. اتفاقية حدودية تجارية مكتملة. وبعدما باتت مسجّلة وموثّقة أمميّاً. وبعدما اضطرّ الحزب إلى أن يسكت ويمتنع عن ذكر كلمة واحدة عن ذلك بعد حصوله. وبالأخصّ بعدما فضحت الأمم المتحدة المعنيين، بأن كشفت أنّه منذ ثلاث سنوات كان عملاء كاريش قد أُبلغوا خطّياً بأنّهم ذاهبون إلى اتفاقية مع إسرائيل.
وهو جنون الارتياب بأنّ من أصل ستّة ملايين لبناني، ما من شخص يُطمئن الحزب، أو يَطمئنّ الحزب إليه، إلا من يسمّيه هو. ولو اضطرّ إلى تغطية تسميته، بصفقة مقايضة مع وصوليٍّ، مقابل ثمن بوعد رئاسة بعد ستّ سنوات. وبعهد حمايةٍ لمزارب ذهب إلكتروني مستحدَث، طوال سنوات العهد العتيد الستّ.
إقرأ أيضاً: الياس الحصروني وبجّاني الثاني: سقطات في الدم
وهو أخيراً جنون الرهان على أنّ الأمور بلغت في لبنان حدّ خنوع ما كانه زمن المحتلّ غازي كنعان. حين صار يردّد: قولوا ما شئتم. وأنا أفعل ما أشاء. قبل أن ينتهي منتحراً ممنوعاً من الفعل والقول.
الحرص على لبنان، هو في بعض منه حرصٌ على مقاومةٍ تكون حقّاً مقاومة. والحرص على الاثنين يكون في المصارحة والمكاشفة. بعيداً عن تزلّف أو خوف أو ارتهان أو انتهاز.
اللهمّ هذا بعض العقل..
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@