الإعلان عن الاتّفاق الأميركي الإيراني على تخلية إيران سبيل خمسة معتقلين أميركيين لديها بتهمة التجسّس، مقابل الإفراج عن خمسة إيرانيين موقوفين في أميركا اتّهموا بخرق العقوبات الأميركية على طهران، إضافة إلى تحويل ستّة مليارات دولار لإيران، محتجزة في كوريا الجنوبية مقابل تصديرها النفط، هل يغيّر من المناخ السلبي الذي طغى في الأسبوعين الماضيين على الصعيد الإقليمي؟
أعاد هذا الإعلان إلى الواجهة في بعض الأوساط، السؤال عن إمكان العودة لتفعيل قنوات التهدئة على الصعيد الإقليمي، بعدما تراجعت الآمال بتأثيرات إيجابية لاتفاق طهران والرياض برعاية بكين منتصف آذار الماضي على استئناف العلاقات الدبلوماسية في سائر ميادين الصراع بما فيها لبنان.
طغت أجواء الخيبة خلال الأسبوعين الماضيين من أنّ الاتفاق السعودي الإيراني خذل تمنّيات بعض الحالمين بتعميم التسويات في الإقليم، على الرغم من أنّ منطلقه مبدأ “صفر مشاكل” لدى الرياض
إضاعة فرصة “بكين”
طغت أجواء الخيبة خلال الأسبوعين الماضيين من أنّ الاتفاق السعودي الإيراني خذل تمنّيات بعض الحالمين بتعميم التسويات في الإقليم، على الرغم من أنّ منطلقه مبدأ “صفر مشاكل” لدى الرياض. فالأوساط التي رصدت ما سينتجه من تسويات في المنطقة، تعتقد مثلاً أنّ لبنان فوّت فرصة ما خلّفه هذا الاتفاق من أجواء استرخاء، خلال الأشهر الثلاثة أو الأربعة التي تلته، وكان يمكن له أن يستفيد منها فتنتخب القوى السياسية رئيساً جديداً للبلاد. ومع أنّ رموز “الممانعة” كانوا أشدّ المتحمّسين للإسراع في الإفادة من هذا المناخ الإقليمي الدولي الذي ساد بعد اتفاق 10 آذار، فإنّ أحد رموز الممانعة أقرّ في حديثه مع بعض السياسيين بأنّه لم يتمّ التقاط هذه الفرصة، قبل أن تعود الأمور إلى التعقيد بين كلّ من طهران والرياض في ملفّات عديدة من اليمن إلى سوريا ولبنان. قيل الكثير في أسباب ذلك، لكن يمكن اختصار التفسيرات بوجهتَي نظر:
– الأولى: تنسب إضاعة الفرصة إلى مكابرة الحزب واعتباره أنّ الاتفاق انتصارٌ لخطّ “الممانعة” والمقاومة، والرئيس الجديد يجب أن يأتي وفق هذه المعادلة.
– الثانية: أنّ البعض الآخر ينسب إضاعة الفرصة إلى سوء تقدير الفرقاء اللبنانيين، وربّما بعض القوى الإقليمية، لمدى انزعاج الولايات المتحدة من هذا الاتفاق، ولا سيّما رعايته من قبل الجانب الصيني. إذ لم يتوقّع هؤلاء أن تدخل واشنطن على الخطّ وتسعى إلى معاكسته، كما هو حاصل منذ أسابيع في المواجهة التي تخوضها ضدّ إيران في كلّ من سوريا والعراق وفي شكل مستتر في لبنان. هذا فضلاً عن العرض الذي قدّمته إدارة الرئيس جو بايدن للمملكة العربية السعودية حول اتفاق استراتيجي، بالتطبيع مع إسرائيل، مقابل اتخاذ الأخيرة خطوات توقف الاستيطان، والتمهيد لإجراءات تسهّل نيل الفلسطينيين حقوقهم عبر حلّ الدولتين، انتهاءً بمساعدة الولايات المتحدة الرياض على امتلاك التقنية النووية… وهو عرض قيد التفاوض بين الجانبين. وواشنطن مهّدت للعرض بتعزيز وجودها العسكري في منطقة الخليج العربي بهدف حفظ أمن الممرّات المائية، ولا سيّما مضيق هرمز وخليج عُمان، بمواجهة التدخّلات الإيرانية.
اتّفاق أمنيّ لا سياسي
يعتقد أكثر من سياسي لبناني إنّ تدرّج الأحداث أثبت أنّ فكّ طلاسم المأزق الرئاسي اللبناني مرهون بالتفاهمات الإيرانية الأميركية، وهو أمر غير متوفّر حالياً. وفي محاولة استكشافية، طُرِح سؤال عمّا إذا كان الاتفاق الجديد بين واشنطن وطهران على تبادل الإفراج عن سجناء وتحرير أرصدة لإيران (كلّ منهما يسرّب أرقاماً مختلفة عن أرقام الآخر في شأنها) يمكن أن يخلق فرصة جديدة. إلا أنّ الأمر لا يبدو على هذا المنوال. يقول أحد السياسيين اللبنانيين لـ”أساس” إنّه حين سُئِلَ مسؤولٌ قطريٌّ رفيعٌ أشرف على الوساطة التي قادتها الدوحة مع سلطنة عُمان من أجل هذا الاتفاق، عن الانعكاسات السياسية لإنجازه، كان الجواب أنّ المفاوضات كانت محض “أمنيّة”، لا سياسية. فالدول التي بينها صراع أو مواجهات، أو حتى حروب، كما هي الحال بين روسيا وأوكرانيا، لا تتوقّف عن التفاوض الأمنيّ، من دون أن يعني ذلك بالضرورة الانتقال إلى التفاوض على المستوى السياسي.
يتواصل تحرّش إيران بالقواعد الأميركية في سوريا عبر الميليشيات الموالية لها، مقابل تحشيد القوات الأميركية للميليشيات الحليفة لها من أجل قطع الطريق بين العراق وسوريا عبر معبرَي التنف والبوكمال
يقود ذلك إلى الاستنتاج أنّ الاتفاق الأميركي الإيراني الأخير على تبادل الأسرى لن يعوّض هدر لبنان فرصة اتفاق بكين بين السعودية وإيران، التي كان ممكناً الإفادة منها لتمرير اتفاق على إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان. وهي فرصة يتّهم محور “الممانعة” أميركا بأنّها وراء ضياعها بإطلاقها الخطط التي تستهدف إيران في سوريا والعراق ولبنان، فيما يتّهم الفريق المقابل المعارض لنفوذ إيران والحزب بإضاعتها بالإصرار على تكريس هذا النفوذ عبر ما حدّده الأمين العامّ لـ”الحزب” عن “الشخص الموثوق” في الرئاسة الذي “لا يطعن المقاومة في الظهر”، وتطويع إعادة تكوين السلطة في لبنان لمقتضيات المواجهة مع أميركا في المنطقة.
كيف يتعلّق اللبنانيّون بحبال الهواء
في وقت يترقّب البعض إشارات إلى تفاهمات إقليمية ودولية تفتح أفقاً لإنهاء مأزق الرئاسة في لبنان، تتفوّق وقائع التشنّج في عدد من الميادين في المنطقة على التمنّيات بإمكان إحداث خرق ما. يبحث هؤلاء عن ضوء ولو خافتاً يجعل حوار أيلول الذي سيدعو إليه الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، مناسبة لتظهير التفاهم على إنهاء الفراغ الرئاسي. يتعلّق اللبنانيون بحبال الهواء ويترقّبون مثلاً إذا كانت الزيارة المرتقبة لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان للسعودية (أعلنها الإعلام الإيراني) ستحمل جديداً لمصلحة تفاهم لبناني داخلي. وينتظرون محطّات أخرى لرصد مدى ملاءمتها مصلحة لبنان.
إلا أنّ المتابعين للأحداث على الصعيد الإقليمي يسردون المؤشّرات المعاكسة للتمنّيات اللبنانية كالآتي:
– يتواصل تحرّش إيران بالقواعد الأميركية في سوريا عبر الميليشيات الموالية لها، مقابل تحشيد القوات الأميركية للميليشيات الحليفة لها من أجل قطع الطريق بين العراق وسوريا عبر معبرَي التنف والبوكمال. ومع تسريب نبأ قصف قاعدة أميركية في الحسكة قبل أربعة أيام، نفى الجانب الأميركي ذلك. وفي المقابل واصلت إسرائيل قصفها مواقع “حرس الثورة” الإيراني والحزب في محيط دمشق، وكانت آخر هذه الضربات السبت الماضي. وتلا ذلك تشييع مقاتل لـ”الحزب” قضى “في مهمّة جهادية”، حسب قول إعلام “الممانعة”.
“اليونيفيل” ومساعي الحزب مع فرنسا
– ذكر بعض الإعلام الإسرائيلي أنّ الحزب أزال الحراسات عن الخيمة التي كان نصبها مناصروه في الأرض المحتلّة من مزرعة بسطرة في مزارع شبعا. وهي الخيمة التي تطالب إسرائيل بإزالتها. وجرى وصف هذا التدبير بأنّه تراجع غير معلن من الحزب. وتتحدّث المعلومات عن أنّه رفع درجة استنفار مقاتليه جنوباً وزاد إرسال أعداد منهم إلى سوريا، بموازاة إعلان نائب الأمين العامّ الشيخ نعيم قاسم أنّه “لا يوجد قرار لدى الحزب الآن بمواجهة عسكرية شاملة مع إسرائيل”. واستعرض الحزب في فيديوات انتشرت أمس آليّات مدرّعة تحمل صواريخ “كورنيت” الروسيّة المضادّة للمدرّعات.
– لبنان سيخوض معركة سياسية مع الجانب الأميركي في الأمم المتحدة لمناسبة التمديد المرتقب آخر الشهر في مجلس الأمن لقوات “اليونيفيل”، إذ تقدّم بصياغة تلغي من إحدى فقرات قرار التجديد السابق العبارة التي تعطي “اليونيفيل” حقّ التنقّل “من دون إذن مسبق” أو تنسيق مع الجيش. وفيما يتّكل لبنان على دعم روسي صيني في هذا الاتجاه، وعلى تفهّم فرنسي، أفادت المعطيات أنّ الحزب سعى إليه باتصالات مع الجانب الفرنسي. ويتوقّع أن يكون الموقف الأميركي متشدّداً بالإبقاء على هذه العبارة، بعد حادثة شاحنة السلاح على كوع الكحّالة.
إقرأ أيضاً: الإستغلال الإيراني للتقارب السعوديّ والوساطة الصينيّة
إسرائيل لا تفوض تحت الضغط..
– جهات وثيقة الصلة بالمداولات المتّصلة باحتمال حصول مفاوضات لبنانية إسرائيلية من أجل إقفال ملفّ “إظهار الحدود البرّية” (باتت هذه العبارة التي يستخدمها لبنان بدل عبارة “ترسيم الحدود”)، لا تشير إلى أنّ المراهنة اللبنانية على وساطة أميركية يمكن أن يقودها كبير مستشاري أمن الطاقة الدولية في واشنطن آموس هوكستين، قابلة للتحقيق في القريب العاجل. فبعض المصادر اعتبر أنّه يمكن للحزب أن ينجز بوقوفه خلف الدولة اللبنانية اتفاقاً على الحدود البرّية، أسوة بذلك الذي حصل على الحدود البحرية في الخريف الماضي، يحقّق هدوءاً تطلبه أميركا، ويكون ثمنه مراعاة الحزب في الرئاسة اللبنانية.
لكنّ هذه الجهات قالت لـ”أساس” إنّ الأمور لم تصل إلى هذا الحدّ في المداولات المتعلّقة بطلب لبنان “إظهار الحدود”، لأنّ إسرائيل أبلغت الأمم المتحدة والجانب الأميركي أنّها لا تفاوض تحت ضغط ما يجري على الحدود من خطوات يتّخذها الحزب، وإنّ الجانب الأميركي مستعدّ للعب دور في “خفض التوتّر الحدودي فقط” في هذه المرحلة، ووقف الإجراءات التي أخذها الحزب.