كما دول العالم الثالث، كذلك الدول العظمى تضربها الفوضى ولو بدرجة أقلّ أو بخفاء ماكر. ومن الواضح أن ليس من دولة أكثر راحة من الأخرى.
في روسيا، احتلّ تمرّد مسلّح، في ساعات قليلة، مدينة روستوف (مركز قيادة الجيش الروسي في حربه على أوكرانيا). توجّه المتمرّدون زحفاً نحو موسكو، فأسقطوا طائرات مقاتلة وطائرات هليكوبتر، وقتلوا طيّارين وجنوداً من نفس القومية واللون والعرق والديانة، بعدما كانوا قد قاتلوا معهم كتفاً إلى كتف طوال 7 أشهر لاحتلال مدينة أوكرانية صغيرة تدعى باخموت.
على الرغم من تصريحات يفغيني بريغوجين ومواقفه الحادّة العلنية بوجه كلّ من وزير الدفاع ورئيس الأركان، غفلت المخابرات الروسية عمّا يحيكه وما ينوي فعله بقوات فاغنر بالتواطؤ مع بعض قادة الجيش البارزين الذين دفعوا الثمن عنه، فضربت المفاجأة أعتى المؤسّسات العميقة في دولة روسيا الاتحادية.
لجأ فلاديمير بوتين إلى رئيس بيلاروسيا ألكسندر لوكاتشينكو لاجتراح حلّ يقي الكرملين شرّ قتال الإخوة ورفاق السلاح. فأعلن في الإعلام الروسي والبيلاروسي توفير ملجأ آمن لفاغنر في روسيا البيضاء.
ثارت ثائرة الدول الأوروبية الشرقية، وتخوّفت بولونيا وليتوانيا ولاتفيا وإستونيا من وضع قوات فاغنر على حدودها. واضطرّ الناطق الإعلامي باسم الكرملين إلى تأكيد الفضيحة الإعلامية التي طفت على سطح وسائل الإعلام الروسية قبل الغربية، معلناً أنّ “الرئيس بوتين التقى في الكرملين قائد قوات فاغنر يفغيني بريغوجين مع حوالي 30 من أركانه بعد 5 أيام من تمرّده، لمدّة 3 ساعات، وتمّ البحث في مهمّات ودور فاغنر”.
للدول العظمى فوضى خاصة بها. قراراتها حيناً ونظامها الداخلي أحياناً يشهدان تقلّبات ونزاعات وإشكاليات قد تصل حدّ “الفوضى”
هذا يعني أنّ بوتين، الذي لم يرضخ لمطلب تغيير وزير الدفاع ورئيس الأركان، لا يستطيع التخلّي عن “الوحش” الذي أوجده ودعمه وأوكل إليه المهامّ “القذرة” في ليبيا وإفريقيا الوسطى وجنوب السودان ومالي، ولا سيما في سوريا، فهو ما يزال بحاجة ماسّة إليه في حربه على أوكرانيا، ولذلك اكتفى بتأبين الطيّارين في قاعة من قاعات الكرملين.
مسحوق أبيض… في البيت الأبيض
في الولايات المتحدة، الوضع “فوضوي” أيضاً. فعلى دفعات ولتقليل الصدمة، أعلن البيت الأبيض وجود مسحوق أبيض في الجناح الذي يرتاده الرئيس جو بايدن، وإجراء تحقيقات لمعرفة نوعيّته والمسؤول عن إدخاله إلى مكان يفترض أن يكون الأكثر أمناً في المعمورة. لاحقاً، ومن باب “الشفافية المجتزأة”، قيل إنّه كوكايين، وذلك في بلد يجوب جيشه ووكالاته الأمنيّة ووكالة مكافحة المخدّرات العالمَ قاطبة لمحاربة تهريب المخدّرات إلى الولايات المتحدة، ويخصّص مليارات الدولارات، ثمّ يكتشف أنّ الكوكايين في مراحيض أعلى الهرم القيادي في البيت الأبيض. وبالطبع من دون الكشف عن المسؤول عن إدخال المخدّرات.
في الفترة عينها، وفي بلد يحاكَم رئيسه السابق دونالد ترامب على تعامله اللامبالي مع الأرشيف الوطني، اشتبه جهاز FBI بأنّ المبعوث الأميركي الخاص إلى إيران روبرت مالي المؤتمن على أسرار ووثائق فائقة السرّية يسرّب وثائق، وقد يُتّهم بالتجسّس لمصلحة إيران. ومالي هو من قاد المفاوضات مع طهران منذ بداية عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، ووُجّهت إليه اتّهامات سياسية عديدة لتراخيه مع المفاوض الإيراني وتساهله معه وإثارته الريبة حتى داخل فريق عمله واستقالة العديد من أعضاء هذا الفريق احتجاجاً على أدائه.
من هنا، لا مجال للتغاضي عن الفوضى اللاحقة ببعض جوانب السياسة الأميركية عموماً، ومنها:
– اضطرار بايدن إلى القيام بزيارة قصيرة للندن لرأب الصدع مع أقرب حليف، إثر معارضة واشنطن الحادّة لترشيح وزير الدفاع البريطاني بن والاس لمركز الأمين العامّ للناتو. وظهر أيضاً تناقض علني بين ما تريده بريطانيا من دعم لأوكرانيا من أجل صمودها بوجه موسكو وما تخطّط له واشنطن. ووصل الأمر إلى الانتقاد البريطاني العلني ورفض إمداد كييف بالقنابل العنقودية. إلى كلّ ذلك، لا يمكن التغاضي عمّا تتناقله الصحف البريطانية عن “عدم حبّ بايدن للمملكة المتحدة، وعدم حضوره تنصيب الملك، وفرضه لإملاءاته في ما يتعلّق بالتجارة الحرّة”.
– حماسة بايدن لتعيين المفوّضة الأوروبية فون دير لاين أمينةً عامّةً للناتو، وهو الأمر الذي تعارضه دول أوروبا الشرقية التي تطالب بإنصافها بتعيين أحد رجالاتها في هذا الموقع.
كما دول العالم الثالث، كذلك الدول العظمى تضربها الفوضى ولو بدرجة أقلّ أو بخفاء ماكر. ومن الواضح أن ليس من دولة أكثر راحة من الأخرى
– اضطرار بايدن إلى وعد الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بالضغط على أوروبا لقبول تركيا في الاتحاد الأوروبي والتساهل بشروط الاتحاد بعد مرور أكثر من خمسة عقود على تقديم الطلب، ووعده ببيع واشنطن قطع غيار طائرات F-16، ورفع الاتحاد الأوروبي والسويد وكندا العقوبات والحظر عن بيع الأسلحة لأنقرة، مقابل انضمام السويد للناتو.
– بعد حادثة المنطاد الصيني، دفع بايدن العلاقة مع الصين إلى حافة الهاوية. ألغى زيارة مقرّرة لوزير خارجيّته أنتوني بلينكن، واستجاب لطروحات الرؤوس الحامية في كلّ من الحزبين الجمهوري والديمقراطي الداعية إلى الويل والثبور وعظائم الأمور وإلى الاقتصاص من الصين. في الوقت عينه، أجرت الإدارة الأميركية مباحثات خفيّة مع السفير الصيني في واشنطن، وأخرى بين السفير الأميركي والخارجية الصينية في بكين، وقام مدير CIA بزيارة سرّية للعاصمة الصينية حتى تكلّلت هذه السياسة المتردّدة الخفيّة المستترة بزيارة بلينكن للصين.
– أتت زيارة وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين لبكين لتعيد بعض البراغماتية والواقعية إلى العلاقة بين واشنطن وبكين. وأعلنت الوزيرة أنّ “فكّ الارتباط بين الاقتصادين أمر مستحيل”.
الصين: مؤتمر الحزب و”الصورة”
على نفس المنوال (الروسي والأميركي) تعاني الصين من أمراض الاضطراب والتردّد والفوضى، إنّما بخفاء أكبر لأنّ النظام في بكين، على الرغم من دمجه بين الاقتصاد الرأسمالي وذاك الاشتراكي، ما زال يحمل سمات النظام الماويّ المأخوذ عن التجربة الستالينية. فإن أظهر بعض المرونة والانفتاح في جوانب اقتصادية فهو يمارس في الأمور الأمنيّة والتنظيمية التشدّد والانغلاق، وهذا ما أظهره على شاشات التلفزة مؤتمر الحزب الحاكم الأخير.
بعدما قابلت بكين العقوبات الأميركية بعقوبات مضادّة، فمنعت تصدير معدنَيْ الغاليوم والجرمانيوم الضروريَّين جداً للصناعة الإلكترونية وصناعة الرقائق خارج البلاد، واللذين تعتبر الصين المصدر الأساسي لهما، تراجعت الصين عن قرارها بعد زيارة جانيت يلين. لا بل أعلن الرئيس شي جينبينغ ضمانات للاستثمارات الأجنبية وعدم الاتجاه لتأميمها أو عرقلة أعمالها، مكتفياً بتكرار إعلان كلّ من بلينكن ويلين المبدئي بأنّ واشنطن ما زالت تؤيّد مبدأ “الصين الواحدة”، وأنّ بكين بدورها، كما حصل باحترامها للاتفاقية مع بريطانيا حول هونغ كونغ: “لا ترغب بضمّ تايوان عن طريق الاحتلال العسكري”، بل تنتظر أن يأتي التغيير التايواني من داخلها بالانتخابات.
إقرأ أيضاً: أمّة تسير على “طريق الخطأ”
في كلّ الأحوال، للدول العظمى فوضى خاصة بها. قراراتها حيناً ونظامها الداخلي أحياناً يشهدان تقلّبات ونزاعات وإشكاليات قد تصل حدّ “الفوضى”. لكنّ سلطة القانون فيها والـSYSTEM يحدّان من تمدّد الصراعات كما يحصل في دول العالم الثالث.
هذه “الفوضى” الداخلية قد تكون فرصة يمكن اقتناصها في العلاقات الدولية وبالتوقيت المثالي. قراءة هذه الإشكاليّات واللعب عليها يميّزان دولة عن أخرى في السباق إلى دخول نادي “الدول العظمى”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: BadihYounes@