إلى نوّاب الحاكم: إعملوا بصمت بلا نعمة الإنجازات ونقمة الاخفاقات

مدة القراءة 5 د


إنّ “مخاطبة المواطن اللبناني مباشرة” ومحاولة إطلاعه على تقنيّات السياسات النقدية هما من أخطر ما أسّس له حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في سنوات الأزمة. واليوم وقع نواب الحاكم في هذا الفخّ وسوف يكون من المستحيل الخروج منه. فاللجوء إلى إصدار بيان هو مخاطبة للمواطن وليس مطالبة لمكوّنات الطبقة الحاكمة بإقرار الإصلاحات وتنفيذها.
السياسات النقدية كالسياسات الضريبية والمالية من المستحيل أن يفهمها جيّداً كلّ المواطنين. لذلك يلجأ المواطن إلى المحاسبين المجازين والمحلّفين لاحتساب الضرائب المترتّبة عليه. وجرت العادة أن يذهب المواطن إلى المصرفيّين ليشرحوا له السياسات النقدية التي لها تأثير على الخدمات المصرفية التي يطلبها.
بعدما اتّضحت الصورة لجهة “كلّن يعني كلّن ورياض سلامة واحد منّن”، على ألسنة الثوّار في الشوارع، قرّر قائد أوركسترا السياسات النقدية إحداث تغيير جذري بقواعد الاشتباك على الساحة النقدية وعلى مساحة لبنان. وبطلب من شخص الحاكم بات مصرف لبنان يوجّه تعاميمه وقراراته وبياناته الصحافية مباشرة إلى الشعب اللبناني بعدما كان يوجّهها إلى المصرفيين ومكوّنات الطبقة الحاكمة، وهكذا راح يخاطب الشعب لغاية في نفس يعقوب، ذلك أنّ هذا النهج لا يتناغم مع أدبيّات السلطة النقدية بالشكل ولا بالمضمون.
كانت تعاميم مصرف لبنان تسلك مساراً شائكاً قبل وصولها إلى المواطن، عميل المصرف (الدائن والمدين)، وليس كلّ المواطنين، وكان هذا المسار على الشكل التالي:

لقد أصبح من الضروري العودة إلى أدبيّات التخاطب المؤسِّس لمرحلة ما بعد سلامة

– يُرسَل مشروع التعميم إلى رؤساء مجالس إدارات المصارف عبر جمعية مصارف لبنان لمراجعته وتسجيل الملاحظات عليه.
– عند إتمام الصيغة الأخيرة للتعميم، يوقّعه الحاكم ويرسله إلى رؤساء مجالس إدارات المصارف والمؤسّسات المالية في لبنان ليسلك مسار التطبيق والامتثال لأحكامه. وكانت التعاميم الإجرائية تصدر دائماً عن لجنة الرقابة على المصارف لا عن مصرف لبنان.
– تفادياً لأيّ التباس في الامتثال لأحكام أيّ تعميم صادر عن مصرف لبنان، كان من مهامّ لجنة الرقابة على المصارف الأساسية إصدار التعاميم التنفيذية لتعاميم مصرف لبنان، التي يفترض أن تكون استراتيجيّة وتطلق شرارة انعطافة أساسية في السياسات النقدية، وبهذا يكون تعميم لجنة الرقابة على المصارف تطبيقياً بطبيعته.
– تُحَوّل التعاميم إلى الدائرة القانونية في المصرف ومديرية العمليات للخوض بتفاصيلها وإنتاج آليّة للتطبيق والامتثال.
– بعدئذٍ يتمّ إدخال تعديلات على العقود (عقد وديعة، عقد قرض…) بين المصرف والعملاء بما يتناغم مع أحكام هذه التعاميم. ولا يعلم عميل المصرف بالتغيير في الإجراءات المصرفية إلّا عند طلب الخدمة.
ضُرِب بكلّ هذا عرض الحائط وأصبحت التعاميم التطبيقية والاستثنائية تصدر عن المجلس المركزي لمصرف لبنان أو عن شخص الحاكم بعيداً عن المجلس المركزي وتُوجّه إلى المواطن ليكون هو الحكَم والحاكم، وأُبْطِل دور لجنة الرقابة على المصارف نهائياً خلال سنوات الأزمة من دون أن يحاول أحد ما أن يتوقّف عند هذه الظاهرة الاستثنائية في أداء السلطة النقدية.

إذا أراد نواب الحاكم الإصلاح، فليتوجّهوا بصمت ومهنيّة إلى السلطة صاحبة الاختصاص، مجلس النواب أو مجلس الوزراء، والتحاور معها ومطالبتها بإقرار الإصلاحات

هل يؤسَّس نهجٌ جديد؟
لن يستطيع نواب الحاكم اليوم التأسيس لنهج جديد ومختلف للتواصل. حُكم عليكم، يا سعادة النواب، بمخاطبة فخامة الشعب مباشرة وبلغة يفهمها. فهل أنتم على استعداد لذلك؟!
إضافة إلى ذلك، هل نتوقّع أن يستمرّ تهميش دور لجنة الرقابة على المصارف في أداء دورها الأساسي في الرقابة؟
إنّ إيجاد الجواب على سؤال: “من سوف يتولّى رئاسة السلطة النقدية بعد رياض سلامة؟”، ليس بكافٍ لإطلاق عجلة ترميم الثقة بين المواطن اللبناني والسلطة النقدية. وليس المقصود هنا المودع اللبناني فقط. يجب العودة إلى تعزيز وتفعيل وتمكين المصارف من تعميم نهج “الشمول الماليّ” لأنّ كلّ ما شاهدناه في السنوات الماضية هو “الاستبعاد الماليّ” الذي عزّز اقتصاد الكاش وأعطى مساحة إضافية للمضاربين وتجّار المال للتحكّم بالاستقرار النقدي. والأهمّ والأخطر أنّه أفرغ المصارف من الحسابات المصرفية وأفقدها دورها في الاقتصاد.
إضافة إلى ذلك، كان من سلبيّات ما أنتجه هذا النهج في التخاطب بين السلطة النقدية والشعب اللبناني تصاعد أعداد الخبراء الذين تستقبلهم الشاشات لشرح الأسباب الموجبة للسياسات المالية والنقدية، والذين يقدّمون قراءة في أخلاقيات وممارسات وقرارات نواب الحاكم. وقد وصل عددهم إلى أربعة ملايين نسمة. ومن أهمّ إنجازات هؤلاء وضع كلّ مواطن لبناني تحت رحمة قدرة المضاربين على استغلال واستثمار الضبابية التي تنتج عن تحليلاتهم.

إقرأ أيضاً: دولار المنصوري “يتنحنح” صعوداً…

لقد أصبح من الضروري العودة إلى أدبيّات التخاطب المؤسِّس لمرحلة ما بعد سلامة.
إذا أراد نواب الحاكم الإصلاح، فليتوجّهوا بصمت ومهنيّة إلى السلطة صاحبة الاختصاص، مجلس النواب أو مجلس الوزراء، والتحاور معها ومطالبتها بإقرار الإصلاحات.
أمّا التوجّه إلى فخامة المواطن من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، فلا يخدم إلا مصالح من يرغبون بالاصطياد في الماء العكر.

 

 * خبير المخاطر المصرفية والباحث في الاقتصاد

مواضيع ذات صلة

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…

استراتيجية متماسكة لضمان الاستقرار النّقديّ (2/2)

مع انتقالنا إلى بناء إطار موحّد لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، سنستعرض الإصلاحات الهيكلية التي تتطلّبها البيئة التنظيمية المجزّأة في لبنان. إنّ توحيد الجهود وتحسين…

الإصلاحات الماليّة الضروريّة للخروج من الخراب (1/2)

مع إقتراب لبنان من وقف إطلاق النار، تبرز الحاجة الملحّة إلى إنشاء إطار متين وفعّال للامتثال لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. تواجه البلاد لحظة محورية،…

لبنان “البريكس” ليس حلاً.. (2/2)

على الرغم من الفوائد المحتملة للشراكة مع بريكس، تواجه هذه المسارات عدداً من التحدّيات التي تستوجب دراسة معمّقة. من التحديات المالية إلى القيود السياسية، يجد…