سوريا إذ تمتحن إنسانيّتنا مرّة أخرى

مدة القراءة 7 د

حضور بشار الأسد أعمال القمّة العربية في جدّة، هو أحدث مشهديّات التغيير السياسي الحاصل في الشرق الأوسط، بعد سلسلة مصالحات بين دول الخليج ومصر من جهة وقطر من جهة ثانية، وأخرى بين دول الخليج من جهة وكلّ من تركيا وإيران من جهة أخرى. كما تأتي عودة سوريا إلى كنف الجامعة العربية في سياق تطوّرات هائلة على مستوى الهندسة الاستراتيجية في الإقليم، تختصرها أربعة ملامح:
1- تردّي العلاقة الخليجية مع واشنطن، ولو شهدت تحسّناً ملحوظاً أخيراً، وسط قناعة بأنّ أميركا تنسحب من الشرق الأوسط.
2- الاتفاق الإبراهيمي الذي افتتح حقبة جديدة من السلام العربي الإسرائيلي بقيادة الإمارات، وخلق ديناميات متعارضة. فمن جهة فُهِم بأنّه محاولة تركيب واقع استراتيجي مضادّ لإيران، ومن جهة حرّض إيران على إيجاد أرضيّات تفاهم مع خصومها العرب علّها بذلك تفرمل اندفاعة السلام الحاصلة وتحدّ من عملية إعادة تعريف الأعداء والحلفاء. كما أنّ مسار السلام الجديد عزّز مسار الانفتاح على الأسد، علَّ التفاهمات الناشئة تقود إلى ضمّ سوريا إلى منظومة السلام الإبراهيمي، وتعطيل واحدة من ساحات ما يُسمّى محور المقاومة.
3النجاح النسبيّ الذي حظي به اختبار الانفتاح العربي على العراق، بعد طول قطيعة لا سيّما مع الخليج، وما نتج عن ذلك من تعزيز جرعة العروبة في العراق. ممّا لا شكّ فيه أنّ عراق اليوم ليس عراق نوري المالكي الذي بات يومها مجرّد ساحة إيرانية ومرتع لميليشياتها. فعراق اليوم يشقّ طريقه ليكون دعامة من دعائم الأمن الإقليمي والتكامل الاقتصادي، كما تشهد لذلك الأدوار السياسية التي قام بها العراق على مستوى الحوار السعودي الإيراني مثلاً، أو مشاريع البنية التحتية الاستراتيجية للربط بين العراق وجواره التركي والإيراني والعربي وصولاً إلى أوروبا.
4- الإنهاك المزدوج لكلّ اللاعبين من دون أفق لتحقيق شامل للأهداف، وفق أجندات زمنيّة معقولة.

حضور بشار الأسد أعمال القمّة العربية في جدّة، هو أحدث مشهديّات التغيير السياسي الحاصل في الشرق الأوسط

الاستثمار في الاستقرار
تتقاطع هذه العناصر الأربعة مع تبنٍّ سعودي إماراتي مشترك لتوجّه سياسي محلّي وإقليمي ودولي، يقوم على فكرة الاستثمار في الاستقرار كمقدّمة موضوعية للنموّ الاقتصادي والتسريع في وتيرة تنويع الاقتصادات الخليجية تحديداً وتهيئتها لمرحلة ما بعد النفط، مع ما يتطلّبه ذلك من ضرورة وقف الاستنزاف، الناتج عن مناخ الاشتباك والصراع الإقليمي. أمّا في الشقّ السياسي فيقوم هذا التوجّه على تبنّي تموضع سياسي يحاذر الدخول في أحلاف ومعسكرات ثابتة ومتواجهة، وهو ما يفرض على هاتين العاصمتين تحديداً، نسج خيوط التواصل مع لاعبين مختلفين وربّما يكونون متناقضين في الوقت نفسه. ولعلّ حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، معشوق الغرب وأميركا، في قاعة واحدة مع بشار الأسد، الشرّ المطلق من وجهة نظر دولية كبيرة وتحديداً غربية وأميركية، ما هو إلا تمظهر لهذا التوجّه الذي عرّفه وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان بالحياد الإيجابي، أي الحياد الباحث عن أسس للاستقرار الإقليمي والدولي وغير المحبّذ للدخول في اصطفافات مكلفة.
إلى ذلك ينطلق التوجّه العربي الجديد الذي يقع التطبيع مع الأسد ضمن تفاصيله، من حقيقة أنّ الفرصة سانحة للاستثمار في الإنهاك المزدوج الذي يصيب إيران كما يصيب خصومها، مع فارق موضوعي لصالح دول الخليج يتمثّل في توفّر ملاءة مالية لديها تساعدها على استثمارها لتطوير تفاهمات مع إيران. إنّه باختصار استثمار في حاجات إيران الاقتصادية الملحّة لصالح تطوير مصالح متبادلة معها، يؤمَل لها أن تؤدّي إلى ترويض توجّهاتها الثورية. ومع كلّ الحذر والشكّ في احتمال نجاح هذا المسعى يرى قادة السعودية والإمارات أن لا بدّ من المحاولة، ولو تطلّب الأمر تسويات صعبة من نوع تعويم الأسد.
ممّا لا شكّ فيه أنّ هذه البراغماتية تنطوي على تحدّيات أخلاقية وقيَميّة غير بسيطة في ظلّ حجم الإجرام الذي مارسه نظام الأسد، وتغامر بالدفع باتجاه انتصار ساحق للجغرافيا السياسية على حقوق الإنسان السوري أو اللبناني أو اليمنيّ أو العراقي، والتأسيس لنظام عربي إقليمي يفتقر إلى عمق إنساني، يحمي أجندات التنمية الاقتصادية ووعود الرفاه والتغيير، والسعي الأكيد والصادق نحو الاستقرار.

الصراع بين المُثُل والوقائع
لن يكون نظام الأسد الأوّل أو الأخير الذي يطرح على علم السياسة معضلة الصراع بين المُثُل الأخلاقية والوقائع السياسية على الأرض. فزيارة الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون للصين في سبعينيّات القرن الماضي التي غيّرت ديناميكيّات الحرب الباردة مع السوفيت، وقبلها تعاون الغرب بقيادة واشنطن مع الاتحاد السوفيتي بزعامة ستالين خلال الحرب العالمية الثانية بهدف هزيمة هتلر، هما من بين النماذج المثيرة، التي بحث فيها صاحب القرار عن آليّات سياسية قادرة على تحقيق فوائد استراتيجية تفوق بكثير أكلافها الأخلاقية، وتسمح بخلق واقع إيجابي طويل الأجل.
أسّست زيارة الرئيس نيكسون للصين عام 1972 لسقوط الشيوعية في موسكو وفتحت الصين على العالم، على الرغم ممّا أثاره القرار من جدل مستمرّ إلى اليوم نظراً لسجلّ حقوق الإنسان المريع في الصين في عهد ماو تسي تونغ، الذي كان في خضمّ الثورة الثقافية (1966-1976)، وما شهدته من عمليات تطهير مرعبة، واعتقالات تعسّفية واسعة النطاق، ومشهديّات تعذيب وإذلال علنيّ، تعرّض لها ملايين الصينيّين بتحريض مباشر من ماو.

لن يكون نظام الأسد الأوّل أو الأخير الذي يطرح على علم السياسة معضلة الصراع بين المُثُل الأخلاقية والوقائع السياسية على الأرض

مع ذلك، وعلى الرغم من هذه الفظاعات في سجلّ الصين، فإنّ الفوائد الاستراتيجية للانخراط في دينامية سياسية معها فاقت بكثير الكلفة الأخلاقية، ومهّدت لتطوّرات سياسية واجتماعية واقتصادية هائلة، وإن ظلّت أقلّ ممّا يؤمل به في حصيلة مثاليّة.
ويشير تعاون أميركا مع الصين بغية إسقاط الاتحاد السوفيتي، الذي كانت واشنطن تعاونت معه، لهزيمة هتلر، إلى أنّ الصراع بين الأخلاق والسياسة غالباً ما يقزّم عملية القرار، إلى مجرّد خيار بين السيّئ والأسوأ.
في ضوء الطموح الصادق للأمير محمد بن سلمان إلى تحويل الشرق الأوسط إلى أوروبا الجديدة، والبحث الجادّ والحثيث عن الاستقرار بغية تحقيق ذلك، من المفيد أن نتذكّر أنّ تجربة إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية توفّر دروساً قيّمة لديناميكيات الشرق الأوسط اليوم، لا سيما في ما يتعلّق بإعادة تعويم الأسد والتصالح مع إيران.
لم تؤدِّ الاستثمارات الجبّارة لخطّة مارشال لإعادة بناء الاقتصادات التي مزّقتها الحرب إلى الانتعاش فحسب، بل أدّت أيضاً إلى تعزيز الترابط وخفض التوتّرات القومية بين الدول. وبالتوازي مع ذلك، أدّى إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب، التي كانت مقدّمة للاتحاد الأوروبي، إلى خلق مصالح اقتصادية مشتركة، وهو ما بدّد احتمالات الصراع المستقبلي بين فرنسا وألمانيا. على هذا النحو يمكن للتكامل الاقتصادي الإقليمي والدولي الذي يمثّل العراق اليوم حقل تجاربه الأبرز كما أسلفنا إلى جانب الأردن ومصر والإمارات والمغرب، أن يكون اختباراً مماثلاً لِما عاشته أوروبا وأسّست عبره لسلامها الطويل.

إقرأ أيضاً: اختبار الالتزام بالتعهّد السوريّ أمام الرياض

ولكنّ علينا أن نتذكّر، وهذا الأهمّ، أنّ العدالة والمساءلة وتذكّر الفظائع الماضية وإعادة إعمار منظومة القيم المشتركة لعبت دوراً حاسماً في عملية المصالحة في أوروبا. التزام ألمانيا بالاعتراف بماضيها النازي كان محوريّاً في عملية التعافي المجتمعي والإنساني. إنّ التزاماً مماثلاً بالعدالة ولو الجزئية، للإنسان السوري، المقتول والمسجون والنازح، والاعتراف بالمعاناة، يجب أن يمثّل حجر الزاوية في المصالحة مع سوريا، كي لا تكون عودة بشار الأسد تطبيعاً مع الجريمة نفسها وتغليباً تامّاً للجغرافيا السياسية على إنسانية البشر.
إنّ مثل هذه المقاربة متاحة بلا شك، بالاستناد إلى ما قاله الأمير فيصل بن فرحان عن سياسة “خطوة مقابل خطوة”، وأنّ الطريق إلى المصالحة التامّة ممهّد بدبلوماسية صبورة وبناء تدريجي للثقة.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

سوريا: حصان الاقتصاد الجديد في الشّرق؟

“إنّه ذكيّ جدّاً (إردوغان). لقد أرادوها (أراد الأتراك سوريا) لآلاف السنين، وقد حازها، وهؤلاء الناس الذين دخلوا (دمشق) تتحكّم بهم تركيا، ولا بأس في ذلك”….

أسئلة في العقبة حول تفرّد الشّرع بالمرحلة الانتقاليّة

من بين الأسئلة الكثيرة التي تناولتها اجتماعات العقبة العربية الدولية السبت الماضي مدى استعداد أحمد الشرع (الجولاني سابقاً) لإشراك قادة المعارضة الآخرين في إدارة المرحلة…

سوريا: تركيا تتقدّم.. إيران تتراجع.. والعرب يتمهّلون

شكَّل سقوط النظام السوري تتويجاً للمتغيّرات بالمنطقة، وعنى تراجعاً للمحور الإيراني، وتعاظماً للنفوذ الإسرائيلي والتركي. والفرق أنّ تركيا تملك قوّة عسكرية وقوّة ناعمة، بينما لا…

“أساس” يُحاور بشّار الأسد: يحيى خرّب كلّ شيء

في غرفة أقرب ما تكون إلى الظلمة منها إلى الضوء، جلست ومعي قلم ودفتر بعدما سحبوا منّي آلة التّسجيل. كانت الساعة فوق الموقدة المشتعلة تُشير…