ما هي النتائج غير المعلنة للقمّة العربية في جدّة؟ وما الذي يمكن أن يجعلها في ظلّ الرئاسة السعودية قابلة للنجاح أو قابلة لعدم التقدّم؟ وما هي العناصر الحاكمة لنجاح أو فشل إيجاد نظام إقليمي فعّال لفضّ المنازعات وتسوية الصراعات؟
منذ كانون الأول من العام الماضي أتنقّل بين جدّة والرياض بشكل متّصل لم تقطعه سوى عدّة زيارات خاطفة لأبو ظبي والقاهرة ودبي من أجل محاولة معرفة الإجابة على السؤال الكبير: كيف ستتشكّل المنطقة، بواسطة زعامات عربية، في ظلّ عالم كبير تُعاد صياغته واختلفت أولويّاته الاستراتيجيّة وترتيب نفوذ القوى فيه؟
تعتمد إدارة شؤون المنطقة على أربعة عناصر رئيسية:
1- تصفير المشاكل بين الجانب المؤثّر العربي (السعودية – الإمارات – مصر) في مواجهة الجانب المؤثّر الشرق أوسطي (تركيا – إيران – إسرائيل).
2- إدارة شؤون المنطقة من دون الاعتماد المطلق على الولايات المتحدة التي اختارت منذ عام أن يكون شرق بحر الصين والمحيط الباسيفيكي وتايوان ومعاداة نظام بوتين هي أولويّات الجهد الأساس الأميركي.
3- رغبة دول أساسية مثل السعودية ومصر والإمارات والأردن وقطر في تعميم نهج السياسة البراغماتية القائمة على خدمة المصالح بدلاً من السياسات الشعبوية العنتريّة التي تسبّبت في التصعيد المدمّر للصراعات الإقليمية.
4- إدراك أنّه لا يمكن إقامة تنمية وطنية مستدامة في ظلّ استنزاف الصراعات الإقليمية والحروب الأهلية الدائرة موارد الدول المعنيّة والدول الداعمة لهذه الأطراف.
في جدّة يرون أنّ الملفّ السوري بالغ التعقيد والصعوبة لأنّ خيوطه معقّدة وتتداخل فيه المصالح المحلية والإقليمية والدولية بواسطة أدوات ووكلاء وميليشيات أمنية وطائفية ومرتزقة وجماعات دينية مصنّفة على جداول الإرهاب
الأولوية لرؤية 2030
بناء على ما سبق يمكن القول إنّ السعودية التي بدأت سياسة تصفير المشاكل مع الأتراك ثمّ إبرام اتفاق صريح وملزم من 6 إلى 10 آذار الماضي في بكين برعاية وضمانة صينيّتين تتحرّك في هذا الاتجاه من قبيل التفرّغ أساساً لتحدّيها الداخلي الأوّل، وهو تعبئة كلّ الموارد والطاقات لتنفيذ رؤية 2030.
يقول مصدر في جدّة : “التنفيذ الأمثل للرؤية لا يمكن أن يحدث من دون استقرار وأمن في المنطقة بدءاً من البحر الأحمر ودوله المتشاطئة وصولاً إلى مضيق باب المندب والحدود البرّية السعودية اليمنية”.
يضيف المصدر قائلاً: “مشاريع التنمية وتصوّرات وأفكار وبرامج الاستثمار في الداخل السعودي، من الطاقة التقليدية إلى الطاقة البديلة، ومن عائدات بيع النفط إلى تعظيم المداخيل غير النفطية، من الاستثمار المحلّي إلى جذب الاستثمار الخارجي، ومن الانفتاح السياحي الداخلي إلى تحويل المملكة إلى قبلة للسياحة ومقصد جاذب للزوّار، كلّها ترتبط بالأمن والأمان والاستقرار”.
يتابع هذا المصدر: “من هنا ومن هنا فقط تأتي نقطة البداية الصحيحة التي تستدعي دوراً فعّالاً للرياض في تعريب الحلول وتعريب وسائل وأدوات التسوية في المنطقة”.
حل عربي للأزمة السورية
منذ أن أعلن رئيس الوزراء الجزائري رئيس الدورة الأخيرة لرئاسة الجامعة العربية وتسليمها إلى وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، فإنّه لا بدّ من الفهم أنّ هناك متغيّراً جوهرياً ورئيسياً سوف يطرأ على العمل الإقليمي العربي.
الرياض التي مدّت جسوراً مع أنقرة وأنجزت اتفاقاً تاريخياً مع طهران، واستضافت طرفَي الصراع في السودان، وشجّعت على تبادل الأسرى في اليمن، تتحرّك الآن نحو أكثر الملفّات تعقيداً في المنطقة، وهو الملفّ السوري.
في جدّة يرون أنّ الملفّ السوري بالغ التعقيد والصعوبة لأنّ خيوطه معقّدة وتتداخل فيه المصالح المحلية والإقليمية والدولية بواسطة أدوات ووكلاء وميليشيات أمنية وطائفية ومرتزقة وجماعات دينية مصنّفة على جداول الإرهاب.
ويرون أيضاً أنّ مسرح العمليات السوري يشمل مصالح روسية وتركية وإيرانية وأميركية وفرنسية وأردنية وعراقية. ذلك كلّه يضاف إليه التدخّل العدوانيّ الإسرائيلي.
ويختمون: “حان الوقت كي يكون هناك حلّ عربي للأزمة السورية”.
وصلت الرياض إلى قناعة أوّلية بأنّ الاحتراب داخل سوريا فتح الباب على مصرعيه لمخاطر استراتيجية على المنطقة، وأنّه قد يكون من الأفضل الآن ممارسة سياسة إمساك العصا من كلّ الاتجاهات والإمساك بكلّ خطوط الأزمة من أجل إيجاد حلول حقيقية لهذا الصراع المعقّد لخدمة مصالح المنطقة.
الأزمة السورية فتحت الباب لوجود عسكري روسي، وميليشيات إيرانية وقوات لحزب الله، وأجهزة استخبارات عسكرية أميركية وأوروبية، وقوات احتلال تركية، و76 نوعاً من الميليشيات الإرهابية من مختلف أرجاء العالم.
بالطبع الملفّ السوري هو جزء من التسويات المتأثّرة إيجابياً بالاتفاق السعودي الإيراني في بكين.
من هنا يمكن فهم تبادل الزيارات بين وزيرَي خارجية السعودية وسوريا، ثمّ توجيه دعوة للرئيس السوري بشار الأسد لحضور القمّة.
هنا يحذّر الفاهمون جيّداً لمعنى هذه الدعوة في جدّة بالقول: “دعوة الرئيس السوري بشار الأسد هي دعوة من رئاسة الدولة المستضيفة للقمّة العربية بالدرجة الأولى، وهي تعني أنّها خطوة انفتاح لاختبار مدى التزام دمشق بما جاء من إجابات سورية في اجتماع عمّان التشاوري بين الوزراء العرب ووزير خارجية سوريا”.
ويضيفون أنّ “إعادة سوريا إلى مقعدها في الجامعة ودعوة الرئيس السوري إلى القمّة ولقاءه المنفرد مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، كلّها تمّ تأسيسها وبناؤها على الردود والوعود الإيجابية التي جاءت على لسان فيصل المقداد في اجتماع عمّان التشاوري”.
هنا يتعيّن على الجانب السوري الذي انقطع عن السياسة السعودية لمدّة 11 عاماً على الأقلّ، وهي تلك الفترة التي تشكّلت فيها السياسة السعودية في الداخل والخارج وفق سياسات الأمير محمد بن سلمان وقواعده وأسلوبه في إدارة الأمور.
الملفّ السوري هو جزء من التسويات المتأثّرة إيجابياً بالاتفاق السعودي الإيراني في بكين
قواعد التعاطي مع ولي العهد
يحذّر مصدر قريب من صناعة القرار في الرياض: “حينما تتعامل الآن مع وليّ العهد السعودي ويتمّ التوصّل إلى مخرجات محدّدة للمباحثات عليك أن تلتزم تماماً بالآتي:
1- لا تعِد محمد بن سلمان بشيء تعرف مسبقاً أنّك لن تلتزم أو لن تقدر على تنفيذه.
2- ما تعِد به يتعيّن أن تتقيّد بتنفيذه بالنصوص والروح والتفاهمات التي تمّت فيه تماماً من دون نقصان أو مناورة.
3- ما التزمت به يجب أن يتمّ وفق الجدول الزمني الذي تمّ الاتفاق عليه من دون مماطلة أو تأخير.
ويتابع المصدر: “قد تكون المفاوضات مع الجانب السعودي شاقّة وصعبة، وذلك يرجع إلى رغبة الرياض في الدقّة والالتزام وتحديد الحقوق والواجبات المترتّبة على كلّ طرف”.
ويضيف: “إذا تمّ توقيع الاتفاق مع الجانب السعودي فتأكّد أنّه سوف يفي بالتزامه كاملاً، شريطة أن تلتزم أنت بتعهّداتك”.
من هنا سوف نلاحظ في نموذج التفاوض السعودي مع الأميركي والصيني والروسي والإيراني والتركي وكلّ القوى الأخرى في العالم العربي أو مجلس التعاون الخليجي 3 صفات رئيسية:
1- بنود واضحة براغماتية لا تستخدم محسّنات بديعية أو عبارات إنشائية أو اللجوء إلى الشعبوية.
2- برنامج محدّد فيه آليّة للتنفيذ تحدّد حقوق كلّ طرف وواجباته.
3- عدم تعهّد الجانب السعودي بوعود لا يمكن الوفاء بها أو لا ترضى الرياض التقيّد بها من منطلق مبدأ: لا تعِد إلّا بما تعرف أنّك سوف تفي به حتماً.
الخطأ الأول مع ولي العهد هو الفرصة الأخيرة
يقولون في جدّة إنّ “الرياض الآن ليست رهينة لأيّة مصالح ولا تعتمد على أيّ قوى دولية بدليل وجود خطوط وعلاقات قوية متوازنة مع موسكو وواشنطن وبكين وأنقرة وطهران من دون تمييز على أساس أنّ العلاقة مع أيّ قوى دولية أو إقليمية تعتمد على مصالح الدولة العليا”.
ويدلّك هؤلاء على ذلك في المشهد الذي ظهر يوم اجتماع القمّة، حيث احتوت قاعة المؤتمر فولوديمير زيلينسكي حليف واشنطن الأول وعدوّ موسكو الأول، وفي الوقت نفسه استقبلت الرئيس بشار الأسد الذي يُعتبر حليف موسكو الأوّل وخصم المصالح الأميركية في المنطقة.
إقرأ أيضاً: سوريا إذ تمتحن إنسانيّتنا مرّة أخرى
في هذا المجال يقول مصدر سعودي: “نحن نتعامل مع الأضداد. نتعامل مع الجميع بناء على مصالحنا شريطة أنّ ما نتّفق عليه وما يتعهّد به الآخر يكون على مستوى الوعد والعهد”.
من هنا يجب أن تعرف دمشق في أوّل تعامل مباشر لها مع وليّ العهد السعودي أنّ الوضع لا يحتمل سوى الالتزام بالتعهّدات مع وليّ العهد السعودي:
“- كما جاءت بالنصّ.
– من دون مناورة.
– من دون مماطلة في التوقيت”.
تبدأ العلاقة السورية – السعودية الآن أولى مراحل اختبار الصدق والمصداقية، ومع وليّ العهد السعودي أوّل خطأ هو الفرصة الأخيرة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Adeeb_Emad@