“طوفان الأقصى”.. الصدمة والترويع

مدة القراءة 6 د


الهجوم العسكري برّاً وبحراً وجوّاً من قطاع غزّة نحو المستوطنات والثكنات الإسرائيلية في منطقة غلاف غزّة، فجر السبت، تحت عنوان “طوفان الأقصى”، هو أكثر بكثير من عمليّة محدودة يجري فيها تبادل الصواريخ والغارات بين فصائل غزّة والجيش الإسرائيلي، لأيام معدودة، وتنتهي بتفاهم جديد وهدنة تستمرّ لأشهر وسنوات قليلة. هذا ما ينضح من حجم الاختراق، وجرأة الأهداف، ودقّة التنفيذ، ومدى الخسائر قتلى وجرحى وأسرى، عسكريين ومدنيين، ممّا لا يمكن لإسرائيل أن تمسح الإهانات البالغة التي تعرّضت لها، من دون تحقيق ضربات موازية في القوّة، وهو ما يفتح المجال لحرب مفتوحة لا تنقضي إلا بالقضاء على الخطر الصاعد. لكنّ السؤال: هل يمكن لإسرائيل أن تردّ مُطلقة اليدين فتدمّر غزّة على رؤوس ساكنيها من دون أن يرفّ للعالم أيّ جفن؟

نجاحات “حماس”
قبل محاولة الإجابة على السؤال المحيّر نظراً للتعقيدات الهائلة التي تكتنف الموقفين العسكري والسياسي، لا بدّ من تسجيل النقاط التالية:
1- الصدمة والترويع: تمكّنت حركة حماس من مباغتة الجيش الإسرائيلي، في الذكرى الخمسين لحرب تشرين عام 1973، في الوقت الذي كانت فيه الأجهزة الاستخبارية والعسكرية تستعيد شريط الخيبة، وتتبادل الاتّهامات في أسباب الفشل آنذاك، فتكرّر المشهد نفسه بحجم أصغر، لكن داخل فلسطين المحتلّة نفسها. ولهذا التوقيت، مع النجاح الاستخباري الفلسطيني في كتمان الإمكانيات والاستعدادات، أثر كبير جدّاً في تعزيز الذكريات الإسرائيلية الأليمة. وهو ما يُسهم في إحباط آمال الاستيطان الدائم على أرض فلسطين.
2- استعمال الإعلام كقوّة مُضاعفة: لم تكن الصدمة الميدانية لتكتمل آثارها النفسية من دون إعلام عسكري فعّال اقتحم أنظار المشاهدين في أنحاء العالم، وهم يتفرّجون للمرّة الأولى على مشاهد مروّعة وغير متوقّعة للقتلى والأسرى من الجنود الإسرائيليين، والآليّات والدبّابات المحترقة، والغنائم الكبيرة، والأسرى المعتقلين من مستوطني غلاف غزّة. وهذه المشاهد لم يسبق لها نظير منذ نكبة فلسطين عام 1948.

[START]الاستثمار السياسي: إنّ النجاح العسكري الباهر لعملية اختراق غلاف غزّة، هو نتاج تمويه طويل المدى، حين كانت الأنظار متّجهة إلى شمال فلسطين المحتلّة، وكان الخوف من تجهيز الحزب لسيناريو مماثل في الجنوب اللبناني

3- استراتيجية جمع الأسرى: مع أنّ اسم العملية “طوفان الأقصى” يوحي بأنّ حركة حماس أطلقت العملية دفاعاً عن المسجد الأقصى في القدس، الذي يتعرّض لانتهاكات إسرائيلية متكرّرة، لكنّ الوقائع تفيد بأنّ ثمّة حرصاً شديداً من المقاتلين وحتى المدنيين الفلسطينيين المتطفّلين الذين وجدوا الطريق مفتوحة من دون عوائق إلى المستوطنات، على اعتقال ما أمكن من إسرائيليين، من أجل إطلاق أكبر قدر من السجناء الفلسطينيين. وهذا يحقّق مطلباً عزيزاً عند كلّ فلسطيني في الضفّة والقطاع وحتى في أراضي عام 1948.
4- الاستثمار السياسي: إنّ النجاح العسكري الباهر لعملية اختراق غلاف غزّة، هو نتاج تمويه طويل المدى، حين كانت الأنظار متّجهة إلى شمال فلسطين المحتلّة، وكان الخوف من تجهيز الحزب لسيناريو مماثل في الجنوب اللبناني، تقوم فيه قوات النخبة باحتلال مستوطنات قريبة من الحدود اللبنانية، لكنّ مفاجأة إسرائيل في جنوبها حين كانت تتوقّع الاختراق من شمالها ستنتج عنها تطوّرات سياسية كبيرة في فلسطين المحتلّة وفي المنطقة، ليس أقلّها تثوير الفلسطينيين في الضفّة الغربية، وتهديد نفوذ السلطة الفلسطينية وخيارها التفاوضي مع إسرائيل، وتعقيد تطبيع العلاقات بين دول عربية وإسرائيل. فمن دون حلّ سياسي يلامس الحدّ الأدنى، لا يمكن لأيّ محاولات تفاوضية أن تصيب النجاح.

الردّ المتوقّع
بالنظر إلى حجم التهديد الوجودي الذي شعر به الإسرائيليون في “يوم الغفران” 2023، ومدى التأييد المطلق الذي لقيته حكومة نتانياهو من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى من أوكرانيا، فمن الممكن أن ترتكب إسرائيل ما أمكنها من ضربات انتقامية، ضدّ قطاع غزة، ولن يقيّدها إلا حجم الأسرى الإسرائيليين، الذين من المتوقّع أن يكونوا بالعشرات في حصيلة أوّلية. فالولايات المتحدة على لسان متحدّث باسم مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض لم يرَ من “طوفان الأقصى” إلا هجمات حركة حماس على المدنيين الإسرائيليين. وأعرب رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك عن صدمته من “الهجمات التي شنّها إرهابيّو “حماس” ضدّ المواطنين الإسرائيليين”، مضيفاً أنّ “لإسرائيل الحقّ المطلق في الدفاع عن نفسها”. وهو نفسه موقف ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا وأوكرانيا، والاتحاد الأوروبي. فما جرى بنظر تلك الدول، هو عمل إرهابي ضدّ المدنيين الأبرياء، ولإسرائيل حقّ الدفاع عن شعبها.

لم تكن الصدمة الميدانية لتكتمل آثارها النفسية من دون إعلام عسكري فعّال اقتحم أنظار المشاهدين في أنحاء العالم، وهم يتفرّجون للمرّة الأولى على مشاهد مروّعة وغير متوقّعة لم يسبق لها نظير منذ نكبة فلسطين عام 1948

أمّا روسيا وتركيا ومصر، فدعت إلى ضبط النفس ووقف العمليات العسكرية. ودعت وزارة الخارجية السعودية إلى “وقف فوري للعنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين”. وقال البيان: “تتابع المملكة العربية السعودية عن كثب تطوّرات الأوضاع غير المسبوقة بين عدد من الفصائل الفلسطينية وقوات الاحتلال الاسرائيلي، التي نتج عنها ارتفاع مستوى العنف الدائر في عدد من الجبهات هناك”. وأكّد البيان أنّ السعودية “تذكّر بتحذيراتها المتكرّرة من مخاطر انفجار الأوضاع نتيجة استمرار الاحتلال وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة وتكرار الاستفزازات الممنهجة ضدّ مقدّساته”. وأضاف: “تجدّد المملكة دعوة المجتمع الدولي إلى الاضطلاع بمسؤوليّاته وتفعيل عملية سلمية ذات مصداقية تفضي إلى حلّ الدولتين بما يحقّق الأمن والسلم في المنطقة ويحمي المدنيين”. أمّا الموقف الأردني فهو قريب ممّا صدر عن الخارجية السعودية، إذ حذّرت الخارجية الأردنية من “الانعكاسات الخطيرة لهذا التصعيد الذي يهدّد بتفجّر الأوضاع بشكل أكبر، خصوصاً في ضوء ما تشهده مدن ومناطق في الضفّة الغربية من اعتداءات وانتهاكات إسرائيلية على الشعب الفلسطيني وعلى المقدّسات الإسلامية والمسيحية وحرمان الشعب الفلسطيني من حقوقه”.

إقرأ أيضاً: لعنة أكتوبر تلاحق الإسرائيليين

إنّ فلسطين والمنطقة لن تكونا بعد “طوفان الأقصى” كما كانتا قبل العملية. هذا ما لا يشكّ فيه اثنان. وهذا الوضع المستجدّ لا يمكن احتواؤه بالوسائل الاعتيادية التي أضحت بالية. فلا التفاوض مع إسرائيل متاح، ولا الاستيطان يتوقّف عند حدّ، ولا تنفع كلّ الوساطات العربية والدولية في تحقيق حلّ سياسي، مع هيمنة المتطرّفين على مقاليد الحكم في إسرائيل. وحتى لو تمكّنت إسرائيل من استعادة زمام المبادرة خلال أيام أو أسابيع، وسيطرت مجدّداً على غلاف غزّة، وضيّقت الخناق على غزّة نفسها، فلن تتمكّن من رمي الفلسطينيين في البحر، ولن يمّحي بسهولة شعور الإسرائيلي بعدم الأمان في ما يظنّه أنّه “أرض الميعاد”.

 

لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@

مواضيع ذات صلة

رفيق الحريري: هل تتحقّق العدالة بتصفية الأداة؟

“المخيف في الأعمال الشرّيرة هو أنّها تُرتكب على أيدي بشر عاديّين” حنة أرندت   ليس المقصود بتفاهة الشرّ بأنّ فعل الشرّ بحدّ ذاته مسألة تافهة….

لبنان والسّيادة… ووقاحة “الشّعب والجيش والمقاومة”

جاء المبعوث الأميركي آموس هوكستين أخيراً. لا يزال يعمل من أجل وقف للنّار في لبنان. ليس ما يشير إلى أنّ طرفَي الحرب، أي إيران وإسرائيل،…

أرانب نتنياهو المتعدّدة لنسف التّسوية

إسرائيل تنتظر وصول المبعوث الرئاسي الأميركي آموس هوكستين، بعدما بات ليلته في بيروت لتذليل بعض العقد من طريق الاتّفاق مع لبنان والحزب، على وقع الانقسام…

كيف ستواجه تركيا “فريق ترامب الصّليبيّ”؟

عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى…