يغرق اللبنانيون أكثر فأكثر في دوّامة البحث عن الرئيس: هل هو في اتفاق يحصل في الخارج؟ أم في تسوية في الداخل؟ مع تراكم الخيبات إزاء المبادرات المحلّية لإخراج البلد من الفراغ الرئاسي.
حتى التحرّك الذي يقوم به الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان والاتصالات الاستكشافية التي يجريها الموفد القطري في بيروت مع سائر الفرقاء تمهيداً لزيارة يقوم بها الوزير في وزارة الخارجية محمد بن عبد العزيز الخليفي، ينظر إليها البعض على أنّها استعدادات لتسوية دولية إقليمية حول الوضع اللبناني.
المبادرات المجهَضة سلفاً
بعض المبادرات المحلية، خصوصاً في الداخل، يدرك أصحابها سلفاً أنّها غير قابلة للحياة نظراً إلى المعرفة المسبقة بأنّها لن تلقى قبولاً، مثل الدعوة المتكرّرة من رئيس مجلس النواب نبيه بري للحوار لمدّة أقصاها سبعة أيام تليها الدعوة إلى جلسة انتخاب الرئيس في دورات متتالية. وقد رفضتها قوى المعارضة وتقاطعت على عدم تلبيتها القيادات المسيحية، كلّ على طريقته.
يغلب الاعتقاد لدى بعض المراقبين أنّ هناك مبادرات يتمّ إطلاقها تحديداً من أجل أن يرفضها الخصوم، في لعبة تقطيع الوقت انسجاماً مع العبارة-المفتاح: “ظروف التسوية لم تنضج بعد”.
يغرق اللبنانيون أكثر فأكثر في دوّامة البحث عن الرئيس: هل هو في اتفاق يحصل في الخارج؟ أم في تسوية في الداخل؟ مع تراكم الخيبات إزاء المبادرات المحلّية لإخراج البلد من الفراغ الرئاسي
وسط متابعة دول الخماسية، أميركا وفرنسا والسعودية ومصر وقطر، الشأن الرئاسي اللبناني، وزيارات الموفدين وتحرّك السفراء مع الفرقاء المحلّيين، تعود الأنظار إلى تحرّكات الخارج، وإلى القاعدة التي لم يحجبها عن عقولهم الحراك الحاصل: إنهاء المأزق الرئاسي اللبناني يحتاج إلى تفاهم أميركي إيراني أوّلاً، ثم إلى ترجمة سعودية في إطار اللجنة الخماسية تنعكس على فرقاء الداخل.
هذه هي قناعة هؤلاء التي لا يحيدون عنها. وتتّسم ملاحقتهم لخطوط التواصل في هذا المجال بالجدّية، ما دامت طهران تمسك بورقة الرئاسة اللبنانية إلى صدرها في إطار حيازتها العديد من الأوراق الإقليمية، إلى أن يحين موعد فرزها ووضعها على الطاولة في المساومات بينها وبين واشنطن.
أنباء تجدُّد المفاوضات الأميركيّة الإيرانيّة
توقّفت الأوساط المتتبّعة للمعلومات عن التفاوض الأميركي الإيراني أمام تسريبات وتصريحات صدرت قبل أربعة أيام عن إمكان استئنافه من أجل بحث الملفّ النووي الإيراني، وردت فيها إشارات تحتاج إلى الرصد والمراقبة، فربّما تقود إلى البحث في المأزق اللبناني، ولو على الهامش، وهي الآتية:
– تصريح وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان في 26 أيلول عن أنّ اليابان “اقترحت مبادرة لإحياء الاتفاق النووي”. كشف عبد اللهيان عن أنّ الاقتراح حصل خلال زيارته لطوكيو في آب الماضي، وهو ما يشي بأنّ المسافة الزمنية بين تقديم طوكيو الاقتراح وبين إعلانه له، سمحت بإجراء اتصالات لجسّ النبض حول خيار المضيّ به، على الرغم من عدم الإفصاح عن الآليّات التي تضمّنها.
– كشف عبد اللهيان أنّه أثناء حضوره اجتماعات الجمعية العامّة للأمم المتحدة الأسبوع الماضي في نيويورك حيث أمضى أسبوعاً مليئاً باللقاءات: “ناقش القضايا الخلافية بين إيران والولايات المتحدة الأميركية مع عدد من المسؤولين الأميركيين السابقين، خلال ندوة عُقدت في أحد مراكز الدراسات الأميركية”.
تفاوض مباشر هذه المرّة؟
– تزامن الكشف عن الاقتراح الياباني مع تسريبات عن أنّ مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي أعطى توجيهات إلى المفاوضين الإيرانيين بالمضيّ قدماً في التفاوض المباشر مع الجانب الأميركي، وأفاد موقع “أمواج ميديا” الإيراني بأنّ المرشد “أعطى الإذن” بالتفاوض المباشر. وأشار موقع “أمواج” إلى أنّ كبير المفاوضين الإيرانيين في الملفّ النووي علي باقري كني سيلتقي “خلال الأسابيع المقبلة منسّق شؤون الشرق الأوسط وإفريقيا في مجلس الأمن القومي الأميركي بريت ماكغورك الذي كان لعب دوراً في صفقة تبادل الأسرى والإفراج عن الأرصدة الماليّة في عُمان. لكنّ الخارجية الإيرانية نفت خبر المفاوضات المباشرة واصفة إيّاه بأنّه “ألاعيب سياسية مزوّرة”.
يذكر أنّ مسألة التفاوض المباشر التي يرفضها خامنئي كانت إحدى العُقد التي تعيق التفاهم بين الدولتين، مع أنّ مصادر دبلوماسية أوضحت أنّ لقاءات مباشرة جرت في عُمان قبل بضعة أشهر، لكنّها بقيت طيّ الكتمان. ولطالما تلقّت طهران نصائح بالإقلاع عن اشتراط التفاوض غير المباشر كما كان يحصل السنة الماضية في فيينا، لأنّه قليل الفائدة مع الأميركيين. ومن الذين قدّموا هذه النصائح لعبد اللهيان وزير الخارجية اللبناني عبد الله بوحبيب، أكثر من مرّة، أثناء زياراته لبيروت.
– سبق ذلك بيان مشترك صدر عن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، دعا إيران إلى “التعاون بشكل كامل مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية”. وهو ما رأى فيه بعض المراقبين تصعيداً يهدف إلى حث الولايات المتحدة استئناف التواصل معها، بعدما كان اقتصر البحث بين الدولتين، عبر الوساطة العمانية بمشاركة قطر، على اتفاق تبادل الأسرى والإفراج عن ستّة مليارات دولار لطهران في كوريا الجنوبية مجمّدة بفعل العقوبات الأميركية عليها.
يغلب الاعتقاد لدى بعض المراقبين أنّ هناك مبادرات يتمّ إطلاقها تحديداً من أجل أن يرفضها الخصوم، في لعبة تقطيع الوقت انسجاماً مع العبارة-المفتاح: “ظروف التسوية لم تنضج بعد”
رئيسي و”الحرس” للإفراج عن مزيد من الأرصدة
في كلّ الأحوال اعتبرت مصادر سياسية لبنانية تسنّى لها الاطّلاع في عُمان وفي الدوحة على بعض جوانب صفقة الإفراج عن السجناء بين طهران وواشنطن، أنّ نجاحها شجّع بعض مراكز القرار في طهران على مواصلة الأخذ والعطاء، نظراً إلى النجاح في الإفراج عن المليارات الستّة التي تحتاج طهران إلى ما هو أكثر منها من أجل تصحيح الوضع المالي الصعب الذي تعاني منه الحكومة والشعب في إيران، بما فيه “حرس الثورة”. وتشير قراءة هؤلاء إلى انعكاسات اتفاق التبادل كالآتي:
– أوّلاً: تفيد معطيات هؤلاء عن ميول مراكز القوى في الهرمية الإيرانية بأنّ اتفاق التبادل شجّع الحكومة الإيرانية برئاسة رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي الذي تتقلّب بين يديه المشاكل الاقتصادية الشديدة الصعوبة التي تعاني منها بلاده والتي أحد أسبابها الأساسية العقوبات، على المضيّ في استكشاف إمكان الإفراج عن المزيد من الأرصدة المالية المحتجَزة بحكم العقوبات، وهي بعشرات المليارات من الدولارات، عبر التفاوض.
– ثانياً: يذهب أصحاب هذه القراءة إلى حدّ القول إنّ القيادات النافذة في “حرس الثورة” تنسجم مع هذه الميول وباتت أقرب إلى توجيه التفاوض نحو تفكيك العقوبات على طهران من أجل التخفيف من وطأة الأزمة الاقتصادية للحؤول دون عودة قويّة للاحتجاجات على الوضع المعيشي المزري في الشارع. وذلك أنّها تدرك أنّ التظاهرات التي انطلقت في أيلول من السنة الماضية وكانت شرارتها السخط على مقتل الفتاة الكردية مهسا أميني، همدت لكنّها لم تنطفئ، على الرغم من حملة القمع التي واجهتها بها السلطات الأمنيّة.
تشير المصادر نفسها إلى أنّ نجاح هذا التوجّه في الحصول على الستّة مليارات يشكّل حجّة بيد هؤلاء من أجل الحصول على مزيد من الأموال المجمّدة، في مواجهة التيار المتشدّد إزاء التفاوض مع أميركا، والذي له صدى لدى المرشد ومحيطه.
إنهاء الفراغ على هامش التفاوض؟
تخالف هذه المعطيات الاستنتاج القائل بأنّ صفقة التبادل محدودة بالمكان والزمان، سواء لأنّ إدارة الرئيس جو بايدن مكبّلة برفض الحزب الجمهوري وبعض الديمقراطيين في الكونغرس لأيّ تنازلات لطهران، أو لأنّ الأخيرة مقيّدة بتحالفها المتين مع موسكو في إطار الانقسام الدولي حول حرب أوكرانيا، وهو ما يحول دون تقديمها تنازلات على الصعيد الإقليمي، أو لأنّ القيادة الإيرانية تحاول الالتفاف على عقوبات واشنطن عبر تطوير علاقتها الاقتصادية مع بكين.
إقرأ أيضاً: لا دولة ولا حياة مع الحزب؟!
صحّت قراءة المعطيات المذكورة أم لم تصحّ، فإنّ الذين ينتظرون حصول تفاهم أميركي إيراني من باب التعويل على أن يقود إلى معالجة بعض الملفّات الإقليمية المعقّدة، ومنها الرئاسة في لبنان، يرصدون ما ستحمله وقائع الأيام والأسابيع المقبلة. وأمّا الذين يراهنون على التفاوض الإيراني الأميركي فيتواضعون في التوقّعات ويكتفون بتوقّع حصول تفاهم على إنهاء الفراغ الرئاسي على هامش أيّ اتفاق في نطاق تبادل الدولتين لخطوات حسن النوايا لا أكثر، بطلب أميركي، فإذا تجاوبت طهران تتولّى الوساطة القطرية بلورته وترجمته بالتنسيق مع دول الخماسية، ولا سيّما فرنسا والسعودية.
في المقابل يعتقد المتشائمون حيال احتمال إنهاء الفراغ الرئاسي في لبنان أنّه حتى لو استُؤنفت المفاوضات بين واشنطن وطهران على النووي، فإنّها ستسلك مساراً طويلاً من المستبعد أن يشمل لبنان في سياق الوضع الإقليمي، في فترة مبكرة.