تتجلّى الديمقراطية في أبهى حللها في الولايات المتحدة الأميركية، وإن كانت تتكشّف بعض ثغراتها عند الممارسة الفعليّة. حصل ذلك مثلاً عند اقتحام الكونغرس وتخريبه ومهاجمة مجلسَي الشيوخ والنواب، ومحاصرة نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، أو عندما تداعى مبدأ “فصل السلطات” بسبب تدخّل رئيس مجلس النواب الجمهوري مع سلطة المدّعي العام القضائية لاستجواب الأخير حول استدعائه الرئيس السابق دونالد ترامب والادّعاء عليه بتهمة إخفاء القيود المحاسبية ودمج أمواله الخاصة بأموال الحملة الانتخابية (التي تُعتبر أموالاً عامة حصل عليها المرشّح ترامب من المساعدات والمساهمات الشعبية).
تتجلّى بعض المظاهر الإيجابية في قيام الأجهزة المختصّة بدخول منازل ومكاتب الرئيس وهو ما يزال في سدّة الرئاسة للتفتيش عن وثائق سرّية كان قد احتفظ بها منذ تولّيه مقعد نيابة الرئيس في عهد أوباما.
في هذا البلد الديمقراطي المتميّز بسيادة القانون فيه وسموّه وتطبيقه على الجميع، تنحصر المنافسة بين حزبين أساسيّين: الجمهوري والديمقراطي، ولم يقوَ أيّ ثالث لهما، على الرغم من تعدّد التنظيمات السياسية وقوى الضغط واللوبيات، على التقدّم لمنافسة هذه الحصرية الحزبية.
تتجلّى الديمقراطية في أبهى حللها في الولايات المتحدة الأميركية، وإن كانت تتكشّف بعض ثغراتها عند الممارسة الفعليّة
المرشّحان بايدن وترامب
أعلن دونالد ترامب أخيراً ترشّحه في الانتخابات العتيدة التي ستجري في 5 تشرين الثاني 2024. وعلى المنوال نفسه أعلن جو بايدن نيّته خوض الانتخابات لتجديد ولايته لأربع سنوات جديدة.
أتى ترشيح ترامب في توقيت سبق استدعاءه للمثول أمام المحكمة الجنائية، وفي خضمّ عدّة شكاوى جزائية ودعاوى مدنية تطاله وموجّهة ضدّه. ربط مراقبون توقيت ترشّحه بهذه القضايا العالقة، وذلك سعياً منه للتأثير على المجريات القضائية ولحثّ “الترامبيّين” على التحرّك دعماً له، ولقطع الطريق أمام المرشّحين الجمهوريين الراغبين في منافسته في الانتخابات الحزبية (التي ستجري داخل الحزب الجمهوري) لاختيار المرشّح لرئاسة الجمهورية ونائبه.
سار بايدن على المنوال عينه، زاعماً أنّ إعلان ترشّحه يوم 25 نيسان في فيديو مدّته 3 دقائق أتى في ذكرى النهار نفسه من عام 2020 عندما ترشّح بوجه ترامب، على الرغم من أنّ هذا الترشّح يأتي قبل سنة ونصف من موعد الانتخاب. لم يمرّ هذا الأمر على المتابعين للشأن الأميركي الذين اعتبروا أنّ ما فعله كان لقطع الطريق أمام معارضة داخلية له داخل الحزب الديمقراطي لأسباب جليّة نعدّد منها التالي:
1- سنّه (82 عاماً)، فهو أكبر رؤساء أميركا الـ 45 سنّاً.
2- صحّته وسقوطه عدّة مرّات ونسيانه التفاصيل والوقائع والأسماء، على الرغم من أنّ طبيب البيت الأبيض يصفه بأنّه “رجل يتمتّع بالصحّة والنشاط، ويمارس الرياضة خمس مرّات في الأسبوع، ولا يدخّن، ويمارس الجنس”.
3- بعض أجواء التكتّلات داخل “حزب الخيمة”، ولا سيما منها أجواء البيئيّين المستائين من تراجع بايدن عن وعوده الانتخابية عندما سمح بتأجير الأراضي الفدرالية، خاصة في ولاية ألاسكا، إلى عمالقة شركات التنقيب عن النفط والغاز، وهو ما سيترتّب عليه أثر بيئي سلبيّ.
أعلن دونالد ترامب أخيراً ترشّحه في الانتخابات العتيدة التي ستجري في 5 تشرين الثاني 2024. وعلى المنوال نفسه أعلن جو بايدن نيّته خوض الانتخابات لتجديد ولايته لأربع سنوات جديدة
بايدن وترامب يعانيان
-أوّلاً: مثلما يعاني ترامب من معارضة داخلية ضمن الحزب الجمهوري – إذ تنسجم بعض القوى الحزبية الفاعلة وعلى رأسها الماكينة الحزبية مع حاكم ولاية فلوريدا “دي سانتيس” وتؤيّده وترفض إعادة اعتماد ترشيح ترامب – كذلك يعاني بايدن من منافسين كثر داخل الحزب الديمقراطي، بدءاً من روبرت إف كينيدي جونيور المعادي لسياسة بايدن في التلقيحات، وماريان ويليامسون، وبيرني ساندرز، إلى جي بي بريتزكر صاحب سلسلة فنادق “حياة”، وفيل مورفي مدير بنك غولدمان ساكس حاكم نيوجرسي وسفير الولايات المتحدة سابقاً في ألمانيا. لكنّ ما يقلق بايدن أكثر من هؤلاء جميعاً، على غرار ما يحصل بين دونالد ترامب وحاكم ولاية فلوريدا، هو حاكم ولاية كاليفورنيا غافين نيوسوم الذي يحظى بشعبية موصوفة وبأكبر قدر من صخب الديمقراطيين في الوقت الحاضر.
-ثانياً: تلاحق مسألة العمر كلّاً من بايدن وترامب على حدّ سواء في بلد متوسّط عمر النواب فيه هو 57 عاماً، في حين متوسّط أعمار الأميركيين هو 38 سنة. فإرضاء فئة الشباب مسألة تقضّ مضاجع الحزبين الديمقراطي والجمهوري معاً عند اختيار المرشّح المناسب لخوض غمار انتخابات الرئاسة في 2024.
-ثالثاً: إلى جانب اختيار المرشّحين، يعاني الحزبان من مسألة شعارات المعركة الانتخابية ومضمونها وحيثيّات تفاصيلها. ففي حين أنّ الناخب الأميركي لا يهتمّ كثيراً بسياسة واشنطن الخارجية، تُطلّ الحرب الروسية – الأوكرانية على “جيب” الناخب الأميركي من باب المساعدات الهائلة المقدّرة بـ44 مليار دولار التي قدّمتها واشنطن لكييف. فاستياء الأوساط الجمهورية الناخبة ليس من دعم أوكرانيا بوجه روسيا، إنّما من سياسة “الشيك على بياض” بعدما كانت أوكرانيا قبل الحرب موضع منازعة بين الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في ما يتّصل بدور هانتر بايدن نجل جو بايدن في حلقة الفساد الأوكراني.
بايدن يريد “تكرار التاريخ”
يريد بايدن أن يعيد التاريخ نفسه وأن يحسم أيّ نقاش حزبي داخلي محتمل لمصلحته ليكرّر المواجهة الصاخبة مع ترامب إن حظي الأخير بترشيح حزبه له. وعندما سُئل بايدن في رحلته الأخيرة إلى إيرلندا عن إنجازاته، أجاب: “لا تنظروا إليّ نظرتكم لقدّيس أو آلهة، إنّما قارنوني بمن هو منافسي”. وعلى الرغم من أرقامه المتدنّية في استطلاعات الرأي وعدم تجاوز الموافقين على أدائه رئيساً طوال سنتين ونيّف نسبة 39%، ومن التأييد المنخفض في أوساط ناخبي الحزب الديمقراطي، ومن ارتفاع أصوات كثيرة داخل “حزب الخيمة” تنادي بإيجاد بديل عنه، إلا أنّ من الصعب إكمال المنافسين له في الانتخابات الحزبية التمهيدية المكلفة جداً.
يلعب الاقتصاد الدور الأهمّ في الانتخابات الرئاسية. وإن نجح بايدن في تمرير قوانين مهمّة تتعلّق بالبنية التحتية والصناعة التقنية، فضلاً عن قوانين محاربة التضخّم (الذي انخفض دون 6%، وهي أفضل نسبة بين كلّ الدول الصناعية المتقدّمة)، غير أنّ النموّ تعرّض للركود بسبب سياسة الفائدة المرتفعة (5%) والتباطؤ الشديد، وتزايد الخوف من انهيارات مصرفية بعد ما أصاب مصرف سيليكون فالي ومصرف سيغنتشير، إذ سيؤثّر ذلك على مصارف كبيرة ما زالت تحت الخطر.
إقرأ أيضاً: هجوم على الكرملين في الوقت الأميركيّ الضائع
علامَ سيركّز الحزبان؟
سيركّز الحزبان معاً على:
– قضايا المرأة وحقّ الإجهاض، وتنظيم الأسرة، وزواج المثليين.
– إعفاء الطلاب من بعض القروض التعليمية.
– مسألة اقتناء وحمل السلاح الفردي.
– الهجرة والمهاجرين والأقلّيات، وتدريس التاريخ الأميركي مع ما يتضمّنه من مسائل العبودية والفصل العنصري وإبادة السكان الأصليّين والسياسات التربوية المتشدّدة.
– النقاش الحادّ في إلغاء أجزاء مهمّة من شبكات الأمان الاجتماعي وبرامج محاربة البطالة والتقاعد والتأمين الصحّي للمسنّين.
– إحياء الخوف على النظام الديمقراطي.
يقود التركيز على كلّ تلك المعضلات الداخلية في اختيار رئيس أكبر دولة في العالم (من حيث القوّة) إلى استنتاج أوّلي يعترف بصحّة استطلاع أجرته شبكة NBC أفاد أنّ حوالي 70% من الأميركيين يعتقدون “أنّ الأمّة تسير على الطريق الخطأ”، ويشي تكرار تجربة انتخابات 2020 باحتمال استمرار الانقسام العمودي داخل المجتمع الأميركي.
*كاتب لبناني مقيم في دبي