أكثر من أيّ وقت، يبدو مصير لبنان، خصوصاً انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة، مرتبطاً بإرادة “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران التي تستخدم أوراقها الإقليمية بطريقة مختلفة تقود إلى النتيجة نفسها. إنّها طريقة مختلفة، إلى حدّ ما، تراعي فيها إيران المملكة العربيّة السعوديّة، من دون أن تراعيها، في ضوء ما ورد في البيان السعودي – الصيني – الإيراني الموقَّع في بكين في العاشر من آذار الماضي.
تحدّث البيان عن “الامتناع عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى”، وهو بند ينحصر مفعوله بين السعودية وإيران حسب تصريح السفير الإيراني في بيروت مجبتى أماني لـ”أساس”، وهو امتناع ترفضه “الجمهوريّة الإسلاميّة” رفضاً قاطعاً في أي دولة أخرى، لا لشيء إلّا لأنّ وقف مثل هذا التدخّل الإيراني في الشؤون الداخليّة لدول المنطقة يعني وقفاً للمشروع التوسّعي الإيراني، بل تخلّياً عنه. في النهاية، يشكّل هذا المشروع علّة وجود النظام القائم في طهران منذ عام 1979… تحت شعار “تصدير الثورة”.
السلوك الإيراني لم يتغيّر
لم يتغيّر شيء في السلوك الإيراني في اليمن أو العراق أو سوريا. حدث تغيير طفيف في لبنان فقط. بموجب هذا التغيير لن يفرض الحزب رئيساً للجمهوريّة لا ترضى عنه المملكة العربيّة السعودية، حتّى لو امتلك القدرة على ذلك عن طريق جمع أكثريّة تزيد على 65 صوتاً لمرشّحه. في الواقع، ليس ما يضمن، إلى إشعار آخر، تمكُّن الحزب من جمع 65 صوتاً لمرشّحه سليمان فرنجيّة.
ليس لدى إيران ما تخسره في لبنان. كلّما زاد البؤس فيه، زاد نفوذها في البلد عبر الميليشيا المذهبيّة التي تتحكّم بكلّ شاردة وواردة بما يتجاوز الحدود اللبنانية
من هذا المنطلق، أتى جان إيف لودريان المبعوث الرئاسي الفرنسي إلى بيروت في زيارة رفع عتب قد يكون الهدف الوحيد منها تأكيد أنّ باريس طوت صفحة سليمان فرنجيّة وباتت تبحث بدورها عن مرشّح آخر. يشير إلى ذلك أنّ لودريان بات المسؤول عن ملفّ المشاريع التي تنفّذها الشركات الفرنسيّة في منطقة العلا السعوديّة وعن التنسيق بينها وبين الهيئات المختصّة في المملكة. تبدو الترجمة العمليّة لهذا التطوّر أنّ فرنسا تسير في الخطّ الذي ترسمه المملكة العربيّة السعودية في شأن كلّ ما يتعلّق بلبنان والملفّ الرئاسي فيه تحديداً.
بكلام أوضح، هناك تغيير فرنسي في ما يخصّ لبنان والملفّ الرئاسي فيه بعدما تبلّغت باريس الموقف السعودي الذي يمكن وصفه بلغة دبلوماسية بأنّه غير مؤيّد لسليمان فرنجيّة أو لغيره من المرشحين حتى إشعار آخر… بمقدار ما هو مؤيّد للتمسّك باتفاق الطائف وانتخاب رئيس للجمهوريّة في مجلس النواب بدل الذهاب إلى مؤتمر حوار وطني.
ماذا يعني ذلك كلّه؟ يعني أنّ فرنسا تقدِّم مصالح شركاتها العاملة في السعودية على كلّ ما عدا ذلك، فيما تعمل “الجمهوريّة الإسلاميّة” على مراعاة المملكة لبنانياً من دون أيّ خروج عن الخطّ العامّ الذي يتحكّم بمشروعها التوسّعي. مثل هذا الخطّ العامّ خطّ مخيف، في أقلّ تقدير، خصوصاً أنّ الرهان على الفراغ الرئاسي هو أحد الرهانات الإيرانيّة في لبنان الذي تتحكّم بكلّ مفاصله بواسطة الحزب.
ليس لدى إيران ما تخسره في لبنان. كلّما زاد البؤس فيه، زاد نفوذها في البلد عبر الميليشيا المذهبيّة التي تتحكّم بكلّ شاردة وواردة بما يتجاوز الحدود اللبنانية. في الوقت ذاته، تعمل “الجمهوريّة الإسلاميّة” على التحكّم بطريقة أفضل بالعراق. هذا ما ظهر واضحاً من خلال الاعتداء المكشوف على صلاحيّات رئيس الكنيسة الكلدانيّة فيه الكاردينال لويس روفائيل ساكو الذي هندس زيارة البابا فرنسيس للبلد في آذار من عام 2021. بلغت الوقاحة بالرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد أن وقّع قراراً يمكن وصفه بأنّه شبه عزل للكاردينال ساكو ووضعٌ لأملاك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في عهدة ميليشيا كلدانية (بابليون) تابعة لـ”الحشد الشعبي” الذي ليس سوى مجموعة ميليشيات تابعة بطريقة أو بأخرى لـ”الحرس الثوري” الإيراني.
يعطي قرار الرئيس العراقي (الكردي)، المفترض أن يكون على مسافة واحدة من جميع العراقيين، فكرة عن مدى التغوّل الإيراني في العراق بعدما خلف محمّد شيّاع السوداني مصطفى الكاظمي في موقع رئيس الوزراء. تعمل إيران حالياً على إزالة كلّ أثر لِما بقي من العراق بمكوّناته المختلفة، بما في ذلك الوجود المسيحي القديم فيه، وهو وجود حمل البابا فرنسيس إلى بلاد الرافدين.
في السياق ذاته، لم يعد سرّاً أنّ خطوة إعادة النظام السوري إلى شغل موقع “الجمهوريّة العربيّة السوريّة” لم تقدّم ولم تؤخّر. في كلّ يوم يمرّ تتأكّد تبعية النظام الأقلّويّ السوري لـ”الحرس الثوري” الإيراني الذي يوسّع انتشاره السوري مستفيداً إلى حدّ كبير من التراجع الروسي في ضوء غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة وسقوطه في الحضن الإيراني وحاجته إلى المسيَّرات التي تزوّده بها طهران كي يتمكّن من متابعة حربه.
هواجس المفتي في محلها
مثل هذه الغيمة السوداء التي تخيّم على المنطقة كلّها، بما في ذلك لبنان، جعلت المفتي الشيخ عبد اللطيف دريان يوجّه رسالةً لمناسبة حلول السنة الهجرية تتطرّق إلى الهواجس الوطنية. بين ما قاله أنّ السُّنّة بخير وهم قادرون على لعب دورهم الوطني التاريخي عبر الحفاظ على “الدولة الجامعة القويّة المتماسكة التي تؤسّس وجودها وقراراتها على التعاقد الذي يُشرك الجميع ولا يستثني فريقاً أو أحداً إذا كان موافقاً على المشاركة”. مثل هذه الدولة لا تقوم من دون العودة إلى الدستور، أي إلى التزام الطائف وانتخاب رئيس للجمهوريّة وتشكيل حكومة. مثل هذه العودة لا تهمّ المشروع الإيراني من قريب أو بعيد، مثلما لا يهمّه انتخاب رئيس للجمهورية أو عدم انتخاب مثل هذا الرئيس.
إقرأ أيضاً: نداء إلى النواب السُنّة: استجيبوا لدعوة المفتي
تبدو هواجس المفتي دريان في محلّها، خصوصاً أنّ الحوار الذي تطرحه إيران من خلال الحزب، ليس سوى غطاء لاستمرار الفراغ الرئاسي الذي بات جزءاً لا يتجزّأ من المشروع التوسّعي لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة” في المنطقة. لم يتغيّر شيء في لبنان باستثناء المراعاة الإيرانيّة لعدم المجيء برئيس للجمهورية تعترض عليه السعوديّة!
لمتابعة الكاتب على تويتر: khairallahkhai5@