تعود سوريا إلى واجهة الأحداث، لكن ليس من باب القصف الإسرائيلي شبه اليومي لمواقع ومخازن أسلحة إيرانية هذه المرّة، أو من باب التقدّم أو التعثّر في الانفتاح العربي عليها، أو من زاوية انسداد أفق المصالحة التركية السورية بوساطة روسية، أو المفاوضات الأميركية السورية وجديد العلاقة بين دمشق وطهران… بل من باب عودة الحركة الاحتجاجية الشعبية في عدد من المناطق السورية التي انطلقت بفعل الذروة الجديدة لتردّي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في بلاد الشام.
شكّلت محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية ميداناً لانطلاق احتجاجات شعبية متصاعدة رُفِعت فيها شعارات ومطالب حياتية، مع تشديد الناشطين فيها على أنّ الهدف التعبير عن الوجع المعيشي، على الرغم من أنّها لم تخلُ من شعارات سياسية تطالب بـ”الحرّية” وبرحيل النظام رفعتها مجموعات من الناشطين في الثورة السورية.
خشية النظام من تجدّد مشهد 2011
كلّ واحد من العناوين السابقة الذكر المتعلّقة بسوريا وغيرها، كفيل بجعلها محطّ اهتمام في سياق التطوّرات الإقليمية، لكنّ الحركة الاحتجاجية الداخلية التي شهدتها محافظة السويداء في الأسابيع الماضية، ثمّ تصاعدها في محافظة درعا وظهور تضامن معهما في دير الزور (تسبّب باستنفار أمني لقوات النظام) وريف حلب وحماه، تنذر حسب مراقبين وناشطين سوريين، بالتحوّل من الغضب حيال الأوضاع المعيشية المزرية إلى تجديد الانتفاضة الشعبية ذات الأهداف السياسية، التي انطلقت في آذار 2011 ضدّ تفرّد نظام بشار الأسد بالحكم وهيمنة أجهزة الأمن والعسكر على السلطة.
لم يخفِ بعض المتّصلين بالنظام خشية أوساطه من إمكان حصول هذا التحوّل، على الرغم من القناعة الراسخة لدى مؤيّديه بأنّه انتصر على معارضيه وسحق المعارضة التي تحوّل رموزها إلى روّاد فنادق وحسب، وأنّ المعادلة الجيوسياسية في الإقليم تجعل منه حاجة للدول المحيطة، وقوّته تنبع من استمرار الدعم الروسي والإيراني له، ومن اللعب على حبال المنافسة بينهما على الاحتفاظ بتفوّق نفوذهما في سوريا، في سياق الصراع مع أميركا.
كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير في الأيام الأخيرة وأطلقت تظاهرات السويداء، ثمّ درعا، هي رفع الحكومة لأسعار المحروقات 300 في المئة، بعد إعلان مضاعفة رواتب موظّفي الدولة مئة في المئة
جرمانا وعوامل سياسيّة جديدة
في وقت كان مناخ “الربيع العربي” في عام 2011 والنقمة على ممارسات القمع رافعةً للانتفاضة السورية، فإنّ تشعُّب الانقسامات السياسية ومساهمة النظام في تفريخ مجموعات سياسية-عسكرية موالية له في العديد من المناطق، وتمتُّع بعض عصابات التهريب والشبّيحة بحمايته التي سمحت لها بالانتفاع والاغتناء من “اقتصاد الحرب”، والاعتراض على توسّع النفوذ الإيراني في المناطق السورية كافّة، هي عوامل ترفد إمكان تحوُّل بعض التحرّكات التي ترفع مطالب معيشية إلى احتجاجات سياسية أيضاً. ويُضاف إلى كلّ ذلك امتناع النظام عن التجاوب مع أيّ إصلاح سياسي. إلا أنّ النظام أتخم وسائل الإعلام التابعة له ووسائل التواصل الاجتماعي بالحديث عن أنّ سبب الضيق الاقتصادي الماليّ هو العقوبات الأميركية على سوريا، مع اتّهام إعلاميين موالين لبعض الناشطين بالتآمر مع “الصهاينة وأربابهم الأميركيين”.
بدأت التظاهرات ضدّ التدابير التي اتّخذتها الحكومة السورية تباعاً والقاضية برفع الرسوم وأسعار بعض الموادّ الأساسية التي تلاشى دعم الخزينة المنهكة لها تدريجاً، قبل زهاء شهرين في السويداء. بلغت التظاهرات وإقفال المحالّ التجارية قبيل منتصف تموز مدينة جرمانا في الضاحية الدمشقية، التي يقطنها عدد كبير من الدروز وخليط من النازحين من الجولان المحتلّ ومن السويداء، اعتراضاً على القرارات الحكومية والانخفاض الدراماتيكي لقيمة الليرة السورية ووصول الدولار إلى ما يوازي عشرة آلاف ليرة سورية، (تخطّى 15 ألف ليرة في الأيام الماضية). اعتقل عناصر الأمن وقوات “الدفاع الوطني” (الميليشيا الرديفة للجيش التي أنشأها النظام خلال الحرب) 3 شبّان دروز، فثار سخط الأهالي الذين طالبوا بالإفراج عنهم، لكن لم تستجِب السلطات لمطلبهم. قام ناشطون مسلّحون من مجموعة “رجال الكرامة” التي كان يتزعّمها الشيخ وحيد البلعوص (اغتيل في السويداء بتفجير سيارته عام 2015 واتُّهم النظام بالعملية) باقتحام مخافر للشرطة واحتجزوا ضابطاً برتبة عميد وثلاثة رتباء، ولم يخلوا سبيلهم إلا بعد الإفراج عن الشبّان الموقوفين.
تنسيق بين السويداء ودرعا
كانت القشّة التي قصمت ظهر البعير في الأيام الأخيرة وأطلقت تظاهرات السويداء، ثمّ درعا، هي رفع الحكومة لأسعار المحروقات 300 في المئة، بعد إعلان مضاعفة رواتب موظّفي الدولة مئة في المئة، فكانت تتآكل الزيادة في الأيام الأولى من كلّ شهر، وسط ضائقة معيشية متفاقمة، وهذا فضلاً عن تقليص البنك المركزي السوري تمويله للمستوردات. لقد بات الوضع النقدي مماثلاً لما حصل في لبنان. فنشرة الأسعار يطرأ عليها تعديلٌ يوميٌّ أكثر من مرّتين أو ثلاث مرّات، وهو ما أربك كثيراً التجّار في التسعير.
[VIDEO]
ركّزت الفضائيات العربية على الحراك في السويداء، لكنّ ما شهدته المحافظة الثانية المهمّة في الجنوب السوري، درعا ذات الأكثرية السنّية، لم يقلّ أهميّة، وسط معطيات عن تنسيق بين مجموعات الحراك في المحافظتين، بعدما كان أعيان السويداء اتّهموا قبل سنوات النظام بمحاولة الإيقاع بين المنطقتين عبر التسبّب باشتباكات بين رعاة للماشية ثمّ بين مهرّبين للمخدّرات.
شهدت درعا التي كانت مهد الثورة السورية عام 2011 أحداثاً أمنيّة ليل 21-22 آب، إذ أعلن “تجمّع أحرار حوران” إطلاق جيش النظام ثلاث قذائف دبّابات على أطراف مدينة نوى في المحافظة الجنوبية إثر تظاهرات ليلية ارتفعت خلالها شعارات إسقاط النظام وطالبت بالإفراج عن المعتقلين. وقطع شبّان المدينة الطرقات، أسوة بما حصل في السويداء.
المرجعيّات الدينيّة تؤيّد الحراك
تميّزت تحرّكات السويداء الأخيرة بدعم من المرجعيات الدينية الدرزية، إضافة إلى نموّ تشكيلات سياسية جذرية في موقفها ضدّ النظام، قياساً إلى المزاج الدرزي العامّ الذي ساد في سنوات الحرب، والذي اعتمد الحيادية تحت سقف رفض الانصياع لتحريض أجهزة المخابرات وحاكم دمشق على المشاركة في القتال ضدّ الثوار، والامتناع عن إرسال الشباب الدروز إلى التجنيد الإجباري مع إجماع القيادة الروحية على تغطية هذا القرار. وكان امتنع 40 ألف شابّ عن الالتحاق بالجيش. لكنّ بعض الأجهزة تمكّنت من استقطاب مجموعات مدّتها بالأسلحة ووسائل النفوذ، فتحوّلت إلى عصابات خوّات ومخدّرات عبثت بالأمن، فما كان من مجموعة “رجال الكرامة” (الراديكالية في انحيازها للثوار) إلّا أن شنّت حملة عسكرية على بعضها، ولا سيما المدعومة من إيران، في آب 2022، لإنهاء وجودها.
إلّا أنّ ميزة التحرّكات الشعبية الأخيرة أنّها حظيت بدعم اثنين من مشايخ العقل الثلاثة في السويداء. فقد انضمّ إلى الشيخ حكمت الهجري الذي كان داعماً للحراك الشعبي من البداية، الشيخ حمود الحناوي الذي اتّصف موقفه بالوسطية، وأصدرا بياناً مشتركاً أول من أمس الخميس 24 آب حدّدا فيه مطالب الحراك من خلال الدعوة إلى “تغيير حكومي وتشكيل حكومة جديدة قادرة على إدارة الأزمة وتحسين الواقع وإيجاد الحلول وعدم ترحيل المسؤوليات”. وطالب البيان المشترك بـ”التراجع عن القرارات الاقتصادية الأخيرة والعمل على تحسين الواقع المعيشي للمواطنين، ومحاربة الفساد والضرب على أيدي المفسدين وتقديمهم للعدالة، وأن تكون مؤسّسة الأمن والشرطة عوناً للمواطن، لا عليه”. ومؤخراً انضم إلى الهجري والحناوي شيخ العقل الثالث بعد مراجعة ناشطين له.
إقرأ أيضاً: تفكّك “عصبيّة” نظام الأسد؟
الهجري: “الغرباء” ينصرون دواعش الداخل
رفض الشيخ الهجري وساطة من النظام عبر محافظ السويداء لوقف التحرّكات الشعبية، معتبراً أنّ تحقيق المطالب لا يحتاج إلى وساطة. وسبق له أن أصدر بياناً داعماً للحراك الشعبي في 19 آب سأل فيه: “أين هي الدول الصديقة والدول الضامنة؟“. وهاجم مسؤولي النظام الذين وصفهم بـ”دواعش الداخل”. وقال: “بدلاً من تكريم الشعب وبعد وقوفنا ضدّ دواعش الخارج، أصبحنا أمام دواعش الداخل المتستّرين بثياب هيبة أو خلف سلاح محميّ من جهات فاسدة، وأصبحنا أمام غرباء استباحوا مقدّراتنا وخيراتنا بطرق مشكوك في أمرها”. أضاف: “بيعت البلاد، ونُهبت الثروات، وتعدّدت الأعلام على أرض الوطن“.
هذا ودفع موقف الشيخين الهجري وحناوي شيخ العقل الثالث، المصنّف موالياً للنظام، إلى إعلان تأييده لاحتجاجات السويداء بعد زيارة ناشطين له.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@