تترنّح براغماتية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الواقعي بين ثوابت الجنرال ديغول، مؤسّس الجمهورية الخامسة وفق مقولة “ليس للدول أصدقاء بل مصالح فقط”، وبين أفكار الرئيس فرانسوا ميتران “الاشتراكي الهوى في السياسة والرأسمالي في الاقتصاد”.
تتأرجح السياسة الخارجية الفرنسية حالياً بين قطبين:
1- استقلالية استراتيجية وتعامل مع أطراف دولية متعدّدة. يحاول الرئيس الفرنسي تعميم هذا التوجّه أوروبياً ودولياً لرسم أسلوب أوروبي مختلف يميّز الجماعة الأوروبية بطريق ثالث ويجعل من فرنسا وأوروبا مستقلّتين عن الهيمنة الأميركية والتغوّل الصيني. وتساعد المبادرة الفرنسية في تنسيق الجهود دولياً، وتؤدّي إلى التخفيف من الأحاديّة القطبية الأميركية، تمهيداً لكسر جموح أيّ ثنائية قطبية ناشئة في المستقبل، وخاصة من خلال التنافس الصداميّ الصيني- الأميركي.
2- انتقائية اقتصادية وشراكات مصلحيّة كسباً للحصص وضماناً لموقع فرنسا التي تعلي شأن مصالحها عند عقدها الاتفاقيات والصفقات والشراكات التجارية والاستثمارية، بمنهجية مستقلّة عن السياسة، مهما كان شأن الدولة، وسواء كان شكل نظامها ديمقراطياً أو ديكتاتورياً أو ثيوقراطياً.
تعوّض فرنسا ضعفها السياسي وتراجع نفوذها من خلال وجودها الاقتصادي والاستثماري ونشاطها التجاري في المنطقة
شكوك في النهج الفرنسيّ
تعتمد فرنسا مقارباتها الانتقائية هذه في كلّ مبادراتها الدولية في أوروبا وإفريقيا. تطبّق شعار التجارة السياسية مع النظام الإيراني. تستنبط حلولاً “سوقيّة” لمختلف قضايا الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وفي مقدّمها الملف اللبناني. وهذا ما يعرّضها حالياً لانتقادات كثيرة داخلياً وخارجياً، بسبب تعارض سياساتها مع المسلّمات والشعارات الكلاسيكية المؤسِّسة للحياة الفرنسية من قيم وأعراف وتقاليد.
يقودنا هذا السلوك إلى إشكاليّة مريبة. إذ يشعر المراقب وكأنّ هناك اتفاقاً ضمنيّاً بين فرنسا وإيران. فهل هناك اتفاق فعلاً؟ أو هل من مسوّدة خفيّة بين فرنسا وإيران بخصوص الملفّ اللبناني؟
تنفي فرنسا هذا الاحتمال نفياً قاطعاً على الرغم من الشكوك في نشاطاتها في الكواليس. وقد أكّدت مراراً أنّ سقف حلّ الملفّ اللبناني هو الآتي:
– البيان الثلاثي (السعودي – الفرنسي – الأميركي) الموقّع على هامش أعمال الجمعية العامّة في الأمم المتحدة.
– النقاط الإجرائية والبنود الاتّفاقية الإصلاحية التي يجري تحصينها في اللقاءات الخماسية لخليّة الأزمة الدولية والعربية المعنيّة بالحلّ اللبناني.
على الرغم من هذا التأكيد الفرنسي تحوم الشبهات حول انغماس النخبة التنفيذية الفرنسية التجارية والاقتصادية والاستثمارية مع مؤسّسات النظام في إيران، حيث لا يوجد قطاع خاصّ.
رائحة صفقات ومقايضات
تفوح رائحة الشراكة والاستحواذ من مرافق حيوية منتجة في لبنان وإيران والعراق وسوريا. تبدأ هذه الصفقات في لبنان من خلال امتياز توتال والكونسورتيوم النفطي الجنوبي، حيث حزب الله وكيل النظام الإيراني. وهناك امتياز إدارة مرفأ بيروت عبر عقد التشغيل وإدارة الحاويات مع شركة CGM CMA، ومحاولات فرنسا الحصول على عقد تشغيل مرفأ طرابلس، والعمل على الدخول إلى مطارَيْ رفيق الحريري ورينيه معوض (القليعات)، والحصول على أسهم ومكانة وازنة في شركة طيران الشرق الأوسط، إضافة إلى امتياز في شركة ليبان بوست.
تعوّض فرنسا ضعفها السياسي وتراجع نفوذها من خلال وجودها الاقتصادي والاستثماري ونشاطها التجاري في المنطقة. لكن حتى لو كانت السيادة هي في اختيار الشركاء، إلّا أنّها لا تكون على حساب مصلحة لبنان واستقراره وتقدّمه ونموّه. فتقديم فرنسا اسم سليمان فرنجية وتسويقه وتعويمه رئيساً للجمهورية من خلال بعض صنّاع السياسة لديها، خطيئة مزدوجة لسببين:
أوّلاً: الانغماس السلبي في وحول التجارة الرخيصة والتوافقات الباطنية.
ثانياً: توقيعها على البيان الثلاثي المكرّس للإصلاحات والداعي إلى انتخاب رئيس جمهورية غير اصطفافي واستقطابي، لا يشكّل وصوله إلى قصر بعبدا استفزازاً.
ويُنتظر من إيران الكثير في تقاربها مع المملكة العربية السعودية وأن تلتزم العهود والمواثيق، وتحترم بنود اتفاقها الأخير، وخاصة المتعلّق باستقرار وسيادة الدول العربية وسحب ميليشياتها
عجز فرنسيّ
عجزت فرنسا عن تحقيق أيّ إنجاز. لم تتمكّن من حلّ أيّة مشكلة دولية، ولم تتوصّل إلى أيّ نهاية إيجابية في الحرب على أوكرانيا وصولاً إلى الملفّ اللبناني. كانت محاولة فرنسا التوصّل إلى حلول في لبنان من خلال تنسيقها مع إيران خروجاً عن عاداتها وقيمها الديمقراطية ومسلّماتها، والتفافاً على قرارات خليّة الأزمة الدولية بخصوص لبنان. وهي تعلم أنّ في وصول مرشحها إلى رئاسة الجمهورية سيكون استمراراً للعهد البائد والمتاهة الجهنّمية التي عصفت بالبلاد.
تريد رئيس جمهورية على طبق من المكاسب التجارية والاستثمارية، بالاتفاق مع مجموعة من رجال أعمال مرشّحين أن يكونوا على اللائحة السوداء، ومهدّدين بعقوبات أميركية وأوروبية. وهنالك فرق كبير بين تقاربها الاقتصادي مع الصين وأهدافه المصلحيّة البراغماتية، وبين تقاربها وتنسيقها مع إيران وإيصال مرشّح فريقها في لبنان.
لا مقارنة بين التنسيق الفرنسي – الإيراني والتقارب السعودي – الإيراني. تتذرّع فرنسا بالتقارب السعودي الإيراني مع أنّ تنسيقها مع إيران سابق لذاك التقارب. لا يؤثّر التقارب السعودي – الإيراني إلّا إيجابياً على لبنان، بعكس التنسيق مع إيران على ضفاف السين. تتميّز المملكة العربية السعودية بالوضوح والصراحة والشفافيّة في طروحاتها السياسية ومبادراتها، ولا تطلب أيّ شيء من لبنان سوى العودة إلى الكتاب (الدستور) والحضن العربي وحوكمة المؤسّسات. أمّا فرنسا فتريد التجارة والاستثمار والخدمات.
يحتاج لبنان في الدرجة الأولى إلى تقارب لبناني – لبناني وعقد لقاءات مصارحة ومصالحة، والعودة إلى تطبيق المواثيق وإعلاء حكم القوانين، واحترام الطائف وتطبيقه قبل الالتفاف والقفز عليه وانتقاده.
تحتاج فرنسا إلى تقارب صادق مع شركائها، وصراحة أكبر مع حلفائها، وتنسيق شفّاف ومكشوف مع زملاء الطاولة الخماسية الدولية. يُطلب من فرنسا العودة إلى جذور سياساتها الخارجية الكلاسيكية، وقيمها المؤسّساتية الثابتة، وأعرافها وتقاليدها المميّزة.
إقرأ أيضاً: ماكرون “المُمانِع”… فرنسا “الفاسِدة”.. لبنان “الضحيّة”
ويُنتظر من إيران الكثير في تقاربها مع المملكة العربية السعودية وأن تلتزم العهود والمواثيق، وتحترم بنود اتفاقها الأخير، وخاصة المتعلّق باستقرار وسيادة الدول العربية وسحب ميليشياتها.
فقدت فرنسا الكثير من نفوذها في دول كانت تُعتبر حدائقها الخلفيّة ومناطق حيويّة لها. تلاشت كلمتها وتلاشى وزنها في دول المنطقة العربية، وبوّابتها لبنان. يفرض عليها هذا الواقع تغيير سلوكها وإعادة النظر في سياستها، وتصحيح وجهة نظرها وأفكارها. عليها أن تختار بين أن تكون دولة مرجعيّة مرجّحة وموثوقة أو أن تكون دولة بازارات مشبوهة وصفقات شعبوية. عليها ألّا تكون كالأمّ التي تطلق النار على قدميها في لبنان أوّلاً، والعالم ثانياً.