وقت البدء بكتابة هذه السطور، لم يكن “الزعيم” الفرنسي إيمانويل ماكرون قد عاد من الصين وأطلق تصريحه “الممانع”: “يجب أن تقاوم أوروبا الضغوط التي تسعى إلى تحويلها إلى تابعة لأميركا”.
كانت النيّة مقالة عن سياسة فرنسا “الفاسدة” في لبنان، والتي تقارب “الزعرنة”، في التشبيك مع أعتى الفاسدين، من أجل عقود ماليّة وتجارية، لكن تحت عنوان شديد الوقاحة هو “إنقاذ لبنان”. و”الإنقاذ” بالطبع يكون من خلال عقد صفقات بمليارات الدولارات بحماية “المنظومة” الماليّة والأمنيّة والسياسية. وهذه الصفقات سيرِدُ ذكرها في ختام هذه العجالة.
فسادٌ عابرٌ للقارّات
فرنسا الأوروبية ليست متّهمة بالفساد في لبنان فقط. لائحة اتّهاماتها تمتدّ من بيروت إلى العراق وإيران في آسيا، وصولاً إلى معظم دول إفريقيا. والإدارات المتعاقبة في الإليزيه، قبل إيمانويل ماكرون، وربّما بعده، تدير شبكات زبائنية سياسية لم ينجُ منها رؤساء تاريخيون مثل جاك شيراك الذي حكم عليه قضاء بلاده بتهمة توظيف 21 شخصاً في وظائف وهمية واستغلال نفوذه وهدر المال العامّ.
فرنسا الأوروبية ليست متّهمة بالفساد في لبنان فقط. لائحة اتّهاماتها تمتدّ من بيروت إلى العراق وإيران في آسيا، وصولاً إلى معظم دول إفريقيا
عاقب القضاء الفرنسي أيضاً رؤساء ووزراء بتهم الفساد وقبض أموال وتمويل حملاتهم الانتخابية من قادة أفارقة، أبرزهم نيكولا ساركوزي وعلاقته الفاسدة بالزعيم الليبي المخلوع معمّر القذّافي. ورؤساء كثر أداروا الفساد “الوطني” في المستعمرات الفرنسية السابقة، لحماية “مصالح” فرنسا ومليارات استثماراتها، وتفوّقها الاقتصادي، و”رخائها”، على حساب الشعوب التي يصادقون حكّامها الفاسدين.
لكنّ ماكرون، الساعي إلى “زعامة” أوروبية، زار الصين، وعاد منها بتصريح غريب. إذ دعا أوروبا إلى “تقليص ارتباطها بالولايات المتحدة” وإلى “تجنّب الدخول في مواجهة مع الصين في قضية تايوان”، معتبراً أنّ الخطر الكبير على أوروبا هو “أن تنجرّ إلى أزماتٍ ليست أزماتها”.
ماكرون الذي سبق أن “أدرك” تراجع نفوذ بلاده في دول إفريقيا الفرنكوفونية، زار القارّة السمراء تحت عناوين الاعتذار والاستدراك، معترفاً في 2017 بـ”جرائم الاستعمار التي لا جدال فيها”، ثمّ معلناً في 2023 أنّ “فرنسا باتت محاوِراً مُحايداً”، ومدّعياً الحرص على “بناء شراكة متوازنة” و”العمل على القضايا المشتركة” مع بلدان القارّة، وذلك ضمن زيارة وُضعت في إطار “مواجهة تنامي النفوذ الروسي على حساب الفرنسي”.
الاستعمار الماليّ الجديد
ما يعنينا في لبنان هو سلوك ماكرون ودولته مع أزماتنا. فهو جاء بعد تفجير مرفأ بيروت في آب 2020، فزار منطقة الجمّيزة الفرنكوفونية والثكلى بسبب أقوى تفجير غير نووي في التاريخ، واحتضن الناس الغاضبين في الشارع، غير خائف من فيروس كورونا. بدا كما لو أنّه “انتحاري” جاء ليخلّصنا من التفجيرات والمفجّرين، باعتباره “المخلّص الغربي” للشعب المُصاب والموجوع. لكنّه ما لبث أن ذهب واجتمع بمجلس “اللويا جيرغا” اللبناني، في قصر الصنوبر، ذلك القصر الذي منه أعلن الجنرال غورو ولادة “لبنان الكبير”، لبنان الطوائف والمذاهب والسيطرة الفرنسية.
من هناك، أخذ ماكرون يبرم سلسلة صفقاتٍ وبدأ حياكة “مبادراتٍ” سياسية تبيّن بعد سنوات أنّ كلّ أهدافها “شفط” ما بقي من أموال اللبنانيين، التي لم يستطع السياسيون شفطها، أو خجلوا. لكنّه جاء ليشفطها بعناوين برّاقة عن “الإنقاذ”، و”يا محلى” عناوين “الديمقراطية” الأميركية في البلاد التي غزاها جنودها:
– النفط والغاز: منذ البداية كانت لشركة “توتال” الحصّة الكبرى في التنقيب، وستكون لها الحصّة الكبرى في استثمار الثروة النفطية في بحر لبنان.
– مرفأ بيروت: في شباط 2022 فازت شركة CGM الفرنسية بعقد تشغيل محطّة الحاويات. وتعرض شركات فرنسية مشاريع إدارة شاملة للمرفأ.
– مرفأ طرابلس: في شباط 2021 وقّعت الشركة نفسها اتّفاقاً لاستخدام المرفأ كمحطة أساسية لها في شرق البحر الأبيض المتوسّط.
– الميدل إيست: تحاول CGM نفسها أن تستحوذ على نسبة من شركة طيران الشرق الأوسط، تراوح بين 10% و49%.
– شركات المطار والقليعات ومصرف لبنان: هناك أخبار عن شركات فرنسية تحاول الفوز بمشروع خصخصة وإدارة مطار رفيق الحريري الدولي، مثل شركات الشحن والخدمة وإدارة الصيانة والإدارة الأمنية أيضاً. وثمّة رغبة فرنسية في استثمار مطار القليعات، القريب من سوريا، ضمن خطّة المشاركة في إعادة إعمار سوريا، في حال أُعيد العمل بتطوير المطار وأُعيد افتتاحه.
– LibanPost: فازت شركة “ميريت” و”كوليبريفيه” بعقد LibanPost في آذار الماضي. وهي مملوكة من شركة CGM نفسها. وقد ألغت “هيئة الشراء العام” العقد بعد التدقيق لأنّه “غير مطابق لدفتر الشروط ولا يحقّق التوازن المالي”.
ما يعنينا في لبنان هو سلوك ماكرون ودولته مع أزماتنا. فهو جاء بعد تفجير مرفأ بيروت في آب 2020، فزار منطقة الجمّيزة الفرنكوفونية والثكلى بسبب أقوى تفجير غير نووي في التاريخ، واحتضن الناس الغاضبين في الشارع، غير خائف من فيروس كورونا
– الدوائر العقاريّة والماليّة: تسعى فرنسا إلى “الاستحواذ” على كلّ الدوائر الرسمية التي “تنتج المال” في لبنان، مثل “العقارية” و”النافعة”، وصولاً إلى “كتّاب العدل”، الخاضعين للدولة من خارجها، فتحاول تسويق مشروع “الربط الإلكتروني” منذ 4 سنوات. وهو مشروع يُختصر بأن يكون “كاتب العدل” هو الوسيط بين الدولة والمواطن، عبر شبكة فرنسية التمويل والتشغيل. ويزور مسؤولون فرنسيون رسميون لبنان شهرياً لتسويق المشروع، ويدورون على الوزراء والنواب والرؤساء.
– حاكم مصرف لبنان: تسعى فرنسا إلى أن تكون لها “كلمة عليا” في اسم الحاكم الجديد بعد انتهاء ولاية الحاكم رياض سلامة، إن لم يكن الحاكم تابعاً لها مباشرةً، كما هو حال اسم سمير عسّاف، الذي طرحه الفرنسيون أكثر من مرّة، باعتبار أنّ هذا المركز أحد المفاصل الأساسية في الاقتصاد والنقد اللبناني، خصوصاً خلال مرحلة الأزمة وما سيليها في مرحلة التعافي. من هنا يمكن فهم الرغبة المتوثّبة لدى فرنسا وقضائها في ملاحقة سلامة ومصارف لبنانية أخرى، ضمن مخطّط وضع اليد على القطاع المصرفي كلّه، أو على الأقلّ أن يكون لها “كلمة عليا” في إعادة هيكلة القطاع المصرفي ضمن مرحلة التعافي.
جنود فرنسا المخلصون
الضابط الأكبر في “جيش ولاية المال” الفرنسية، هو الرئيس نجيب ميقاتي. يحبّه أركان “الدولة العميقة” في فرنسا، من استخبارات ومسؤولين “خارج الصورة”، وصولاً إلى “استماتة” ماكرون وفريقه في التسويق لاسمه رئيساً مستمرّاً للحكومة بعد انتخابات رئاسة الجمهورية.
في اللقاء الخماسي في باريس طرح الفرنسيون اسمه في عهد سليمان فرنجية الذي يتمنّونه. وهو المشرف على كلّ المناقصات والمزايدات التي فازوا بها في السنوات الأخيرة، خلال حكومته الأخيرة.
أمّا المرشد الأعلى للبلاد، الحزب الحاكم، فهو ساكت وموافق، وكان سيأخذ حصّته من دم اللبنانيين في “صفقة المطار” التي قُدّرت أرباحها بما يقارب مليار دولار، قبل أن “يطيّرها” الرأي العامّ ويجبر الحزب ووزير أشغاله في الحكومة على التبرّؤ من ثوبها.
الحزب الحاكم مرتاح لدور فرنسا في لبنان. فماكرون يعمل “مدير التسويق” لدى المرشّح سليمان فرنجية. هناك جيش من الدبلوماسيين والقادة الأمنيين الفرنسيين يعملون في تسويق فرنجية، وفي أخذ مواعيد له من الإليزيه إلى آخر ضابط مخابرات فرنسي له علاقة بالملف اللبناني.
فرنسا باتت الأمّ الحنون لهذا الحزب الحاكم. تتفاهم معه على كلّ شيء، من “قصر الصنوبر” في آب 2020، حين أمسك ماكرون بمحمد رعد على باب القاعة، وتبادل معه أطراف الحديث، إلى الترسيم البحري بكواليس فرنسية ووساطة دولية بين إسرائيل وأميركا… إلى يومنا هذا الذي “تشفط” فيه فرنسا العقد تلو الآخر في جسد الدولة المنهارة، فيما إعلام الحزب وكتّابه “ساكتون عن الحقّ” بأوامر من “الدولة العليّة”.
إقرأ أيضاً: “ترابط الساحات” واتّفاق بكّين: إسألوا رفيق الحريري
كان العرب ينظرون إلى ماكرون ويهزّون رؤوسهم. أرسلوا موفداً قطريّاً ليفهم الرئيس الفرنسي أنّ مبادرته “منحازة” و”غير متوازنة”. على بعد ساعات من وصول الموفد القطري، أرسل الأميركيون عقوباتٍ استهدفت اليد اليمنى لمرشّح فرنسا، أي “الأخوين رحمة”، كي يفهم ماكرون أنّ التفويض الأميركي سقفه “الفساد” و”استخدام الثروات في تقويض العملية الديمقراطية”.
على ماكرون أن يفهم: “السرقة باتت محدودة”.. “الطمع لا حدود له”..