أغضبت الرئيسَ رجب طيب إردوغان زيارةُ السفير الأميركي جيك فليك لزعيم المعارضة ومرشّح الطاولة السداسية لانتخابات الرئاسة التركية كمال كيليشدار أوغلو. حاولت الخارجية الأميركية الردّ بأسلوب دبلوماسي وتجنّب التصعيد وتوتير العلاقات أكثر من ذلك بالقول إنّ “الزيارة روتينية وفي صلب مهامّ السفراء في الدول التي تستقبلهم لفهم ما يجري هناك”. لكنّ مسار التطوّرات ومجريات الأحداث تقول إنّ حالة الغليان لن تهدأ قبل خروج تركيا من أجواء 14 أيار.
تلقين أميركا الدرس
“علينا في هذه الانتخابات تلقين أميركا الدرس. رئيسها بايدن يتحدّث من هناك عن تركيا وضرورة دعم المعارضة لإزاحة حزب العدالة عن السلطة. سفيرها هنا يذهب للقاء كمال كيليشدار أوغلو. الزم حدودك. كيف ستحصل على موعد لمقابلتي بعد الآن؟ الأبواب أُغلقت أمامك”.
“رئيس الأركان الأميركي في جولته الأخيرة لشرق الفرات كان يتفقّد جنود بلاده الذين يشرفون على تدريب عناصر “قسد” في المنطقة”.
“واشنطن أشرفت على تدريب وحدة مكوّنة من 80 شخصاً من “قوات سوريا الديمقراطية على استخدام المروحيات، وهذه الوحدة تقوم بدورها بتدريب عشرات العناصر التابعة لـ”قسد” على الطيران في منطقة تبعد 25 كلم عن الحدود التركية وتقع تحت النفوذ الأميركي”.
علاقة أنقرة بالسفير فليك لم تكن ولن تكون يوماً مثل السمن على العسل
العبارة الأولى هي للرئيس التركي رجب طيب إردوغان. والثانية هي لوزير خارجيته مولود شاووش أوغلو. والثالثة هي للمحلّل الاستراتيجي والخبير الأمني المقرّب من “حزب العدالة والتنمية” بولنت أوراك أوغلو. والمعنيّ الأوّل والأخير هو الإدارة الأميركية وسياستها التي تغضب أنقرة وتستفزّ إردوغان وحزبه وهما في الطريق إلى انتخابات مصيرية بعد 5 أسابيع.
فتحت القيادات السياسية التركية النار مجدّداً على الإدارة الأميركية على جبهتين دفعة واحدة:
انتقد إردوغان زيارة السفير الأميركي لكمال كيليشدار أوغلو. وصعّد وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو من الداخل الأميركي خلال وجوده في نيويورك معلناً أنّ اللقاء الرباعي حول الملف السوري سيُعقد في موعده في موسكو، وأنّ أنقرة تستعدّ لاستقبال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في السادس من الشهر الحالي لبحث ملفّات ثنائية وإقليمية عديدة.
العلاقة المتوترة
علاقة أنقرة بالسفير فليك لم تكن ولن تكون يوماً مثل السمن على العسل. إذ يسود توتّر وتصعيد أحياناً كما فعل وزير الداخلية التركي سليمان صويلو وهو يهاجم السفير الأميركي قبل يومين من وقوع الزلزال متّهماً السفارة الأميركية بأنّها لعبت دور رأس حربة في تحريض 8 دول أوروبية على إغلاق أبواب قنصليّاتها في إسطنبول تحت ذريعة الدوافع الأمنية. وأحياناً أخرى تكون انفتاحية كما ردّد السفير فليك بعد كارثة الزلزال من أنّ “أنقرة قامت بواجبها حيال دول العالم لسنوات طويلة، وعلينا اليوم أن نردّ الجميل”. الرئيس التركي يعرف أكثر من غيره كيف يعمل السفراء في البلدان التي تستضيفهم. فهو نفسه التقى بالكثير منهم عندما كان رئيساً لبلدية إسطنبول في التسعينيات. فلماذا أغضبته خطوة السفير الأميركي على هذا النحو؟
عامل الانتخابات حاضر حتماً. فالرئيس التركي يدعو إلى تلقين أميركا الدرس في 14 أيار المقبل. اختيار المكان مهمّ أيضاً إلى جانب عامل التوقيت. هو يتحدّث أمام مجموعة من الشباب اليميني القومي المقرّبين من “حزب الحركة القومية”، شريكه تحت سقف “تحالف الجمهور”، خلال زيارته لهم في أحد أحياء إسطنبول. لكنّ معضلة ملفّات الخلاف والتباعد التركي الأميركي الكثيرة التي تعاني من تراجع فرص التفاؤل بحدوث اختراق سياسي حقيقي في مسار العلاقات لها دائماً الحصّة الكبيرة في هذا الاحتقان والتصعيد. هناك أزمة عدم حسم مسألة تزويد أنقرة بالمقاتلات إف – 16. والصداقة القائمة بين واشنطن ومجموعات “قسد”، على حساب آلية العمل المشترك بين أنقرة وواشنطن التي تشكّلت في مطلع نيسان 2021 والتي لم تُفعّل حتى اليوم. تصعيد إردوغان لا يمكن فصله أيضاً عن التقارب التركي الروسي الأخير. فهو يتحدّث قبل ساعات من توجّه وفد دبلوماسي تركي رفيع إلى موسكو للمشاركة في اجتماعات الطاولة الرباعية حول الملف السوري.
الانتخابات الأصعب
تدرك أنقرة، التي تستعدّ لأصعب انتخابات رئاسية وبرلمانية من نوعها منذ عقود، أنّ التطوّرات الإقليمية المتلاحقة في الإقليم ستكون على حسابها إذا لم تتعامل معها بجديّة وسرعة. لكنّ المشكلة هي أنّ معظم هذه الملفّات تقلق واشنطن لأنّها تتعارض مع مصالحها ونفوذها في أكثر من مكان، ومن بينها:
– التموضع والانتشار الصيني الاستراتيجي الجديد في التعامل مع أكثر من ملف إقليمي ودولي يرتبط بمصالح بكين الاقتصادية وعروض الوساطة والمصالحة والحلحلة في ملفّات ساخنة تمنح الصين المزيد من التوغّل والاختراق في ساحة اللعب الأميركية.
– التحرّك العربي والإقليمي الجديد حول الملف السوري وضرورة إيجاد تسوية سياسية تنهي الأزمة التي مضى عليها 12 عاماً، والتي تخدم تعقيداتها مصالح أطراف يهمّها استمرار التصعيد والتوتّر في سوريا على حساب رغبة العديد من العواصم بإنهاء هذه المشكلة.
– القناعات الإقليمية الجديدة التي تربط بين الملفّات المعقّدة وضرورة وضع خطّة أولويات مبرمجة لتخفيف التوتّر وامتصاص الاحتقان على أكثر من جبهة يتقدّمها الملفّان السوري والعراقي وعلاقات إيران مع الإقليم وسياسة إسرائيل التصعيدية في الأراضي المحتلّة.
– توسعة رقعة التحالفات والانضمام إلى منظمات اقتصادية صاعدة مثل “شنغهاي” ومجموعة دول “بريكس” في إطار تذكير واشنطن بانطلاق عجلة التعدّدية القطبية وتراجع نظام الأحادية الأميركية الذي تحمّلت دول المنطقة الكثير من أعبائه السياسية والأمنية والمادّية.
حادثة دهوك
تفجّرت آخر ساحات المواجهة البعيدة عن الأعين بين أنقرة وواشنطن بعد حادثة سقوط مروحيّتين في دهوك وهما تنقلان قيادات وكوادر لـ”قسد” التي نفت دائماً علاقتها بما يجري في شمال العراق، لكنّها سقطت في مصيدة الكشف عن خدمات التنقّل الجوّي التي تُقدّم لها على خطّ شرق الفرات السوري وسماء السليمانية. طالب وزير الخارجية التركي شاووش أوغلو واشنطن بالكشف عن مسائل كثيرة تحتاج إلى “توضيح” مَن زوّد “قسد” بالمروحيّات ومَن درّب عناصرها على استخدامها ومن سهّل لها التنقّل بين المناطق الحدودية السورية والعراقية على هذا النحو؟ اختارت واشنطن الصمت حتى الآن وعدم التعليق على ما جرى لأنّها رفضت دائماً وجود أيّ علاقة بين “قسد” في شرق سوريا وبين ما يجري في قنديل وسنجار. فما الذي ستقوله هذه المرّة؟
وضع بيان “قسد” حول الحادثة التنظيم تحت المجهر التركي، لكنّه رفع عدد الطلاسم حول ما جرى وحمل معه الكثير من التساؤلات الأمنية والسياسية التي تنتظر الإجابات، وكلّها عند أميركا قبل غيرها. قرّرت إربيل الردّ لتجنّب ردّة الفعل التركية عبر معلومات وتفاصيل إضافية على لسان رئيس حكومة الإقليم مسرور بارزاني، الذي قال إنّ “ملكية المروحيّتين تعود لمجموعة من “الاتحاد الوطني الكردستاني” المقرّب من بافل بارزاني، لكن “لا نعرف كيف ولماذا وصلت إلى قوات سوريا الديمقراطية وما الذي كانت تفعله في المكان”.
من جانبه نفى المتحدّث باسم البنتاغون الجنرال باتريك رايد أيّ علاقة قد تربط الولايات المتحدة الأميركية بامتلاك “قسد” لطائرات مروحية أو تدريب عناصرها على قيادتها. لكنّ النفي الأميركي لن يُطمئن أنقرة حتماً لأنّها تعرف أنّ وسطاء وأجهزة أمنية أميركية كثيرة في القطاعين الرسمي والخاص يوفّرون الحماية لهذه المجموعات يستطيعون أن يقوموا بذلك. تحصل “قسد” في النهاية على المروحيات بقرار أميركي حتى لو اعترضت أنقرة لأنّ ذلك حسب واشنطن من متطلّبات الحرب على تنظيم “داعش” ومطاردة فلولها. الأهمّ بالنسبة إلى أنقرة هو انكشاف العلاقة بين واشنطن و”قسد” في ممرّ الحدود العراقية السورية. ما جرى كما يقول وزير الدفاع التركي خلوصي أكار ترك الطرفين الأميركي و”قسد” أمام وضعيّة “الجرم المشهود”.
إقرأ أيضاً: الإنتخابات التركية : “الصوت وبس”.. مرحلة المواجهة!
تصعيد إردوغان ضدّ السفير فليك هو رسالة موجّهة إلى واشنطن قبل السفير. العلاقات تحت رحمة ملفّات خلافية كثيرة. والتاريخ الأقرب لمعرفة شكلها في المرحلة المقبلة هو ما بعد 14 أيار التركي، حين سيلعب التقارب التركي الروسي والتركي الصيني والانفتاح الأخير على دول المنطقة دوراً أساسياً في رسم معالم العلاقات التركية الأميركية الجديدة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: profsamirsalha@